مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

شبابة

0

بقلم – محمود عودة:

لم أدر كم من الزمن انقضى وأنا في جحر الضب هذا، المسمى زنزانة، بالكاد يتسع لجسدي النحيل، أكابد صراع التنفس مع رذاذ سعالي المتزايد منذ مدة بلا علاج، السجين الأداري مهدور الحقوق..

 

قد يهمك ايضاً:

أهيم بطيفك

تسلل من فتحة أسفل الباب الحديدي، طبق معدني ( صحن ) ورغيف خبز، يتوسطان شييئاً مسطحاً ربما صينية لا لون له، إنها وجبة منتصف اليوم، السجان يقدم وجبتين فقظ لنزلاء الحبس الإنفرادي، وجبة منتصف النهار وأخرى في الليل، ولا أعلم أي الوجبات أتلمظ، فأقول وجبة منتصف النهار ووجبة آخره، قبضت الرغيف دون النظر لما يحتويه الصحن رغم بخار خفيف يتصاعد منه، كعادتي منذ الصغر أقضم الرغيف قبل أن أغمس أي لقمة في الطبيخ المقدم، جزت أسناني ارتعبت في البداية بل كدت ألقي بالرغيف في الصحن وأنزوي بعيداً، مكر السجان يرعبني دائماً، تجرأت وفتحت الرغيف، قفزت عالياً فرحاً كاد رأسي يصطدم بالسقف، لم أتوقع الرغيف بهذا المذاق الطيب، لأول مرة أتذوق منذ سقوطي في الحبس الانفرادي أتلذذ بهكذا طعم، طعم شباباتي الحزينة، نعم الحزينة، بدون أصابعي وشفتي حزينة، صامتة، تفتقد أنفاسي، لا صوت ولا همس، صديقتي ورفيقة عمري شهدت طفولتي وشبابي، أفراحي وأتراحي، بيننا عشق فاق وله كل العشاق، صوت لحنها الحاني يدغدغ مشاعر صديقي ويستفز صوته العندليبي، إنه عندليب السجن كما يسميه المساجين، ينطلق صوته يشق عنان السماء بالأناشيد الوطنية بالتناغم مع شبابتي، لا أدري اليوم نهار جمعة لا أعلم تاريخه ما الذي استفز حراس السجن، ربما بعض كلمات الأناشيد الدينية، انقضوا بوحشية بعصيهم وهراوتم، كوحوش جائعة انفردت بفريسة، تكسرت عظام وتشوهت وجوه وتصاعدت صرخات وأنات، ضاعت شباباتي،فقد ت اتزاني وسقطت مغيباً، لمعت أمام عيني يوم داهموا بيتنا، دون استئذان ضاربين عرض الحائط بكل العرف والأخلاق، ارتعشت أمي وثار أبي فركله جندي بأخمص قدمه وآخر جرجرني إلى سيارتهم المصفحة، ولا أدري ما السبب حتى الان، استيقظت وأنا محشور في هذا الجحر .

 

عودة شباباتي فتحت أمامي أبواب السماء اتسع الجحر أصبحت في عيوني أكبر من باحة السجن، انتعشت أنفاسي اختفى السعال، رطوبة الجحر أصبحت نسيم عليل، رفعتها بكلتا يدي ضممتها إلى صدري، ربما تصدح بخفقات قلبي السعيدة، مررت شفتاي على ثقوبها بشغف أرطبها برضابي، وألعقه شهداً بلساني، لضمت فاهها بشفتيَ المتعطشتين،بثت أنفاسي، انتفتخا شدقي، تدغدغت بدفء نفخي، صدح لحنها الشادي بالدلعونة تسلل شذى عبيره إلى الزنزانة المجاورة، صدح صوت قوي بالدلعونة، يا إلهي !! إنه صديقي العندليب، اندلقت الأصوات من زنازين السجن الإنفراي، تصاعدت الأصوات، ملأت الباحات وفرت إلى القاعات، رقصت الأبواب الحديدية وتمايلت الجدران طرباً .. خرت الأصوات المنطربة على رأس السجان، كادت أن تصرعه ، غلت الدماء في عروقه، تشظى دماغه، اطلق جرذانه، يقرضون بوحشيه أجساد السجناء، غطى لحن الشبابة قعقة أبواتهم الجلدية، انقضوا على جسدي النحيل بعصيهم وهراوتهم، لم أتألم، لم أصرخ، تألمت جداً لصراخ شبابتي وهي تتحطم تحت أقدامهم، صوت جاري مايزال يصدح مع الوجع .. نسم يا هوى بلادي .. نسم يا ريح الشمالي، وأنا مازلت أفكر كيف ولجت الشبابة إلى سجني الانفرادي .

انتهت ..

اترك رد