مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قصة قصيرة -حدث أنّ…

7

بقلم – الطيب جامعي.. تونس

كنت أستعدّ للضّغط على الدّواسة للانطلاق بسرعة لما باغتني “مشموم فلّ” أطلّ عليّ من فوق بلّور النّافذة النّازل قليلا. انتبهت إلى الوجه الملائكيّ يبتسم في حزن. قال:
– بدينار واحد.. لصديقتك… سيّدي الكّريم.
رددت بسرعة دون أن أدري كيف:
– ابنتي … حبيبتي..
-إذن إليك الثّاني أيضا، واحد لك و واحد لها، و ينتهي كلّ ما عندي هذا اليوم، ألا تستحقّ ابنتك هذه ذلك سيدي؟!!

لا أدري بما أجيب، سكتّ. أجلت البصر بينه و بين ابنتي لحظات.. أُسقِط في يديّ. قلت:” حسنا.. خذ هذه…”، و نقدته عوض الدّينارين خمسة. صحيح أن تشكيله لزهرات الفلّ يبدو بدائيّا ساذجا، ولكنّ ملامح الاجتهاد و الرّغبة في التّفاني جليّة.
أفقت و قد أكبّ على جبيني مقبّلا و هو يحمد لي هذا الصّنيع. و لأوّل مرّة أرى في عينين بريئتين فرحا حقيقيّا غادرنا منذ أن اندلعت تلك الأحداث في حيّنا الذي كان ينعم بهدوء تحسده عليه بقيّة الأحياء.

لم يتجاوز على ما أظن الثانية عشرة. فتى قصير القامة، يرتدي ما رثّ من الثّياب، حافي القدمين تقريبا، إذ كان يضع خفين خَلِقين لا يكادان يستران قدميه، تطالعك أصابع قدميه اللّدنة و قد أُدمِي أحدها.

قد يهمك ايضاً:

الثلاثاء المقبل.. قصور الثقافة تحتفي بالمسيرة الإبداعية…

الاحتفاء بالشاعر عيد صالح في العودة إلى الجذور بدمياط..…

تذكّرت ملامحه. في الواقع كنت قد صادفت هذا الفتى مرتين: مرّة في محطّة الحافلات و هو يعتني بأحذية الحرفاء، يصبغها، ثم يلمّعها، فلا يغادره الزّبون إلا و هو راض تمام الرّضا. لم أر في حياتي أحدا يحب ما يقوم به كما كان يفعل. و صادفته مرّة في سوق الملابس المستعملة يبيع أكياسا بلاستيكيّة.
قبل أن يغادرني مغتبطا عاجلته بسؤال ألحّ عليّ كثيرا و لم أستطع له درءا. قلت:
– يبدو أنّك تحصل على مدخول محترم جرّاء تفانيك في عملك، أليس كذلك صغيري؟!!
– نعم… سيدي..
– و أظن أنك تدخر منه الكثير للعبك …
– سيدي…
– أو أنّك تنفقه على صنوف الحلوى؟!!
– سيّدي…
رفع إليّ طرفه. نظر إليّ نظرة نفذت إلى أعماق أعماقي. و لأوّل مرّة أحسّ بشيء ما في نفسي لا أدري ما هو، ظلّ يَخِزُني و يقضّ مضجع أفكاري. نبتت في مخيلتي عشرات الأسئلة.
تراجع بضع خطوات. ثم استدار و انطلق بين ركض و جري يتوارى بين جموع المهرولين.الكلّ كان ينشد السّلامة، فقد عادت الطّلقات تفجّر صمت الفضاء.

كان من المفترض أن أنطلق بأقصى سرعة للعودة و التماس الأمان، و لكنّ رغبة ملحّة كبحت جماحي و أملت عليّ هذا التّصرّف رغم حرارة الجوّ المختنق برائحة الموت.
ركنت السّيّارة جانبا. نزلت . هرولت أقتفي أثر فتاي. لمحته في آخر النّهج. تنفّست الصّعداء. من شارع إلى آخر و من نهج إلى نهج كنت أتّبع خطواته دون أن يفطن بي. دلف أخيرا إلى حيّ خلفيّ و منه إلى طرفه النّاعس. توغّل أكثر بين أنقاض بيوت كانت إلى زمن قريب عامرة بأهاليها الصّاخبين.انعطف، انعطفت. ابتلعه نهج ضيّق. صمّمت على المواصلة. كنت أجد صعوبة بالغة في المشي و العبور… لا شيء غير أنقاض هنا و هناك: حجارة متناثرة… حائط… نصف حائط.. أسلاك … قضبان … كراسٍ… طاولات مهشمة… تلفاز بشاشة مثقوبة… رائحة الموت في كل تفصيل من تفاصيل هذا الخراب…
و أخيرا… لمحته ينزلق إلى داخل بيت، بل إلى ما بقي منه: ركن جنوبي و آخر شرقيّ، عليهما بعض الأخشاب سقفا و قد غُطَّت ببقايا أقمشة و بعض أغطيّة كانت إلى وقت قريب تزيّن أسِرّة فاخرة…
انتظرت قليلا. ثم صمّمت على الاطلاع على ما بالدّاخل.و من بين الثّقوب الكثيرة استطاعت عيناي أن تتلصّصا. و رأيتهما معا…
بقيت جامدا، انحبست الكلمات في تجويف حلقي، يبست شفتاي… فقط دمعات غزيرة سالت من مقلتيّ راسمة خطوطا طولية على خدّي. و ما لبثتُ أن أحسست بحرارتها تدغدغ صدري المكشوف.

في الدّاخل كان الصبيّ يحتضن امرأة ثلاثينيّة، يسندها إلى الحائط. تبتسم إليه رغم وجعها الظّاهر. يواسيها بكلماته الرقيقة. أرهفت السمع أكثر، لأيًا استطعت أن أتبيّن ما يدور بينهما.
كانت تجهد نفسها في إخفاء ألمها. تبتسم نصف ابتسامة. تقول في محبة و عطف ظاهرين:
– هل اشتريت اللّعبة التي كنت تنتظرها من أبيك يوم العيد؟ … تستطيع أن تشتري لباسا جديدا و حذاء جديدا و –
– لا أريد يا أمي… ألا ترين أنني كبرت… أنا الآن رجل… سنشتري الدواء الذي وصفه لنا الطّبيب.. بضعة أيام لا غير… ستكونين بخير أمّي، هكذا أكّد لي الطّبيب. الأطبّاء لا يكذبون… ستمشين… سنمرح معا، سنلعب كثيرا… سوف تقُصِّين عليَّ كل ليلة قصّة قبل أن أنام.، أ ليس كذلك؟ سنزور قبر أبي و أخويّ… سنقرأ الفاتحة لأجلهما.
رمقته بنظرة حنان. لم تقل شيئا. و أظنّها فسحت المجال لمقلتيها لكتابة كلماتها التي عجزت أوتارها الصوتيّة عن البوح بها، فقد رأيته يمسك بطرف كمّه و يمرّره على خديّها.

تسمّرت في مكاني برهة لا أدري ما أفعل، أغالب غصّة البكاء. و ددت لو أستطيع الدّخول عليهما و ضمّها معا. ولكن الخجل و العجز كبحا هذه الرّغبة.
استدرت أجرّ رجليّ جرّا. ركبت السيّارة، ضغطتّ بكلّ قوّة على دوّاسة البنزين. زمجرت. انطلقتُ بأقصى سرعة، لكن لا أدري إلى أين…

 

اترك رد