مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قرآنا يمشي على الأرض “رسالة العلم ١”

178

 

قرآنا يمشي على الأرض “رسالة العلم ١”

بقلم  : محمود سالم

 

زانَـتـكَ في الخُلُقِ العَظيمِ شَمائِلٌ
يُـغـرى بِـهِـنَّ وَيـولَعُ الكُرَماءُ
أَمّـا الـجَمالُ فَأَنتَ شَمسُ سَمائِهِ
وَمَـلاحَـةُ الـصِـدّيـقِ مِنكَ أَياءُ
وَالـحُـسنُ مِن كَرَمِ الوُجوهِ وَخَيرُهُ
مـا أوتِـيَ الـقُـوّادُ وَالـزُعَماءُ
– كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي من قصيدة ” ولد الهدى فالكائنات ضياء ” –

رجل أمي لا يجيد القراءة والكتابة يعيش بصحراء شبه الجزيرة لم يختلط بأي شكل من أشكال الحضارة والتقدمية كان يعمل بالتجارة ، منذ نشأته وعرف عنه من الخصال أسماها ومن الأخلاق أطيبها فكان أصدق الناس أميناً لم يشرب الخمر ولم يسجد لصنم قط ؛ ترعرع وسط قوم برعوا أيما براعة في بنيان الكلمة وتراكيبها وفنون اللغة وحسن صياغتها .

قد يهمك ايضاً:

المرجفون الجدد

البصمة المائية

وفي ليلة من ليالي شهر رمضان وقد بلغ الأربعين من العمر بينما كان يتعبد كعادته في غار حراء على ملة إبراهيم حنيفا كانتا السماوات والارض يتهيآن للحدث الكوني المقدس الجلل فقد أذن الله جل جلاله لأمين الوحي جبريل عليه السلام ببعثة رسول آخر الزمان محمد بن عبد الله ، إذ تنزل عليه رسول السماء وكانت أول كلمة أوحى إليه بها جبريل ( اقرأ ) ثم تلى عليه قوله تعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ..

ومنذ تلك اللحظات المهيبة ببدء رسالة نبي ورسول آخر الزمان وهو يتنزل عليه الوحي تباعا من الله جل في علاه ، فقد تميز رسول الله عن سائر الأنبياء والرسل فمعجزته لم تكن من الخوارق مثلاً كسائرهم فلم يملك عصا موسى عليه السلام ولا يشفي المرضى ويحيى الموتى بإذن ربه كعيسى عليه السلام وانما أراد الله أن يخاطب أقوام آخر الزمان برسول معجزته في ذاته ، كيف للأمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة أن يأتي بمثل هذا الكلام بالغ الإتقان في ألفاظه وبلاغته الذي ليس هو بالشعر ولا هو بالنثر ليتحدى به قوم لم تبلغ أمة من الأمم مبلغهم في الكلم وسحره ، وصدق الله عز وجل في كتابه : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ ﴾ ( ٢٣ البقرة ) ..
كيف لأمي لم يبرح شبه الجزيرة العربية أن يشير في ومضة لحقائق وأسرار علمية بعيدة كل البعد عن خيال وعقول قاطني هذه البادية في ذلك الوقت فسرت بعد ذلك بمئات السنين ، وتكشف للناس كمعجزات على صدق نزول القرآن من الله الحق ، فقال عز وجل في كتابه : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ( ٥٣ فصلت ) ..

دلالة هذا السرد وعلاقته بمضمون المقال أن الله اختص سيدنا رسول الله برسالة آخر الزمان مخاطباً به عقول أقوام آخر الزمان وتقدمهم العلمي فكانت أول إشارة ربانية نزلت على رسول الله آيات محكمات في أهمية العلم وأثره {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ثم تلاها آية {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} خير دلالة من الخالق عز وجل لمن يقرأ ويأخذ بأسباب العلم فلا عز لنا ولا مكانة لنا بين الأمم إلا بالعلم واذا طبقت هذه الآية الكريمة على واقعنا المعاصر ستجد أن أهم ميزة في مميزات الأمم المتطورة هي شغف شعوبهم ومواطنيهم بالقراءة ، وعلى سبيل المثال دراسة من الدراسات الحديثة كشفت على أن المواطن الياباني يقرأ في المتوسط (٨٠) كتابا في السنة والمواطن العربي يقرأ (نصف) كتابا فقط ! ، فكيف لنا أن نجاريهم في تطورهم وتقدمهم وربك العدل ، لقد كان أكثر ما يلح عليه رسول الله في سيرته هو طلب العلم وفضله وأثره على الفرد والدولة فنجد من الأحاديث كثر منها عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) ، وفي حديث آخر عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير ” .
وفي سياق آخر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من سلك طريقاً يبتغي فيه علما سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع ، وأن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً أو درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ) .

وقال جل في علاه في محكم تنزيله { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، ولا يتبادر إلى ذهنك عزيزي القارئ أن الله ورسوله يقصدون علم أمور الدين فقط كما تدعي تيارات الجمود والظلام الذين يغرسون في عقول الناس والعامة بالفروق بين العلم الديني والدنيوي وأن العلم الديني أفضل من الدنيوي تقسيمات لا أساس لها من الدين ولا وجود لفرق أصلاً سوا في التخصص فكلها علوم الله ، إنما يروجون لهذه الأوهام لغرض في النفوس حتى يجعلون لهم مكانة بين الناس تصل للقدسية وللأسف قد أصابوا من هدفهم هذا كثيراً ، فما وصلنا إليه الآن من وضع مزري بين الأمم نتاج إضلال متعمد حملهم على هذه الأفكار حكام جور منذ مئات السنين أفسدوا الدين والدنيا وأضلوا بتجهيل الأمة بصحيح الدين نظير أن يتوطد لهم الحكم ، وإليك الحجة عزيزي القارئ فلو توقفت عند آية { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ثم تأملت قوله تعالى في نفس الآية والآية التي تسبقها مباشرة من كلام رب العزة ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَ ٰ⁠تࣲ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَ ٰ⁠نُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِیضࣱ وَحُمۡرࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰ⁠نُهَا وَغَرَابِیبُ سُودࣱ ۝٢٧ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَاۤبِّ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰ⁠نُهُۥ كَذَ ٰ⁠لِكَۗ إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ ۝٢٨﴾ [فاطر ٢٧- ٢٨] نلاحظ في الآيات الكريمة التعديد فالعلم الذي يتحدث عنه جل جلاله هو العلم المرتبط بالماء ونزوله وإخراج الثمراث والأشجار وأنواع الجبال وألوانها فالعلم بهذه المخلوقات والعلوم الكونية هي التي تؤدي إلى خشية الله وليس أبلغ من القرآن حجة وأصدق دليلاً فكل علم ينفع البشرية من الدين يؤجر عليه صاحبه ، والحكم الفقهي لنا كمسلمين الذي ذهب إليه بعض العلماء في القول بأنه إذا كان في غير المسلمين عالماً في أي مجال من مجالات العلوم ولم يناظره أحداً من المسلمين في علمه فقد أثم جميع المسلمون أي أنه فرض كفاية ، ولو تصفحنا في لمحة عابرة من تاريخنا لوجدنا علماء سطروا أسمائهم بحروف من نور في ميادين العلم ونفع البشرية لعلي أذكر منهم على سبيل المثال أبي جعفر العبدري الذي ألف كتابه ( فقه الحساب ) ولوهلة قد يدور في ذهنك مرادفات الاسم كفقه الصلاة والصيام مثلا ، ألف العبدري كتابه منذ ما يقرب من ١٠٠٠ عام ويعتبر هذا الكتاب من الإسهامات الكبيرة في علم الرياضيات وتطوره ولعلي أيضا اقتبس منه ما ذكره في مقدمة هذا الكتاب واستدلالاته بأن علم الحساب والرياضيات من الدين ، فيقول العبدري في مقدمة الكتاب : فالعلم أفضل ما أكتسب وأغلى ما طلب به يتميز الإنسان ويخرج من جملة الحيوان ،، وأرفع العقليات أي أعلاها ” علم الحساب ” فإنه معقول محسوس وهو ميزان الحق وقسطاس العدل وكفة الصدق به تعرف الفرائض الشرعية ، قال سبحانه وتعالى { الشمس والقمر بحسبان } ثم كفى به شرفا أن جعله صفة من صفاته سبحانه وتعالى { وهو أسرع الحاسبين } ، وننتقل لمثال آخر فلا تتعجب عندما تعلم أن ” الجزري ” هو أول من اخترع خزينة أموال وباب يتم فتحه بالأرقام السرية منذ ٨٠٠ عام وشرح هذا مفصلا في كتابه ( الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل ) ،، إذا فما علاقة الخزينة بالدين ؟ أليس حفظ المال من مقاصد الشريعة الخمسة مع حفظ الدين ، النفس ، العقل والعرض ! ، وسوف أزيدك من الأمثلة بعالم كلنا نعلم اسمه تمام العلم فهو كالشمس في وضح النهار جابر بن حيان الذي اخترع مبدأ تقطير المياه وهي النظرية التي يرتكز عليها علم الكيمياء جله ، فلا تثيرك الدهشة عندما تعلم أن كلمة ( Chimestry ) بالإنجليزية مشتقة من كلمة ( كيمياء ) العربية ،، وعلماء كثر لا حصر لهم تزهو بهم صفحات الإنسانية والعلوم الكونية كانوا ومازالوا لنا مصدر عزة وفخر علنا نعود يوماً إلى ما كانوا عليه من الفهم الصحيح لمقاصد الدين في كل شئ وأن نأخذ بالأسباب التي تجعلنا نواكب التطور في جميع المجالات وأن نخرج من عباءة الجمود والانغلاق الفكري وضيق الأفق التي سئمنا منها على مدار قرون ..

لاختتم بأن نتاج ما أردت التركيز عليه هو محاولة الفهم الصحيح لسيرة خير البرية رسول الله من القرآن الكريم والسنة النبوية وأن نعين أنفسنا جميعا على فهم وإدراك مقاصد الشريعة بشكلها الصحيح تمام الإدراك بالعلم والعمل قبل القول ، وأتمنى من الله أن أكون قد وفقت في طرح الفكرة حتى تصل لقلوبكم قبل أذهانكم إلى أن يتجدد لقاءنا في مقال آخر لنتزود معا مقصداً آخر من مقاصد سيرته العطرة ورسالته السمحاء إن قدر الله لنا البقاء واللقاء .

التعليقات مغلقة.