مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

أحمد حشمت علي يكتب.. الكروان و الهاتف

430

أعود من صلاة العشاء، وفي هدوء غير معهود من لعب الأطفال والصبيان ومن صراخهم المتحمس أثناء اللعب، سمعت صوت الكروان الجميل، كثيرًا ما تُيمت بذلك الصوت الرفيع العذب، أحس فيه بعمق لا أفهمه، سألت نفسي بعدها : ما الذي حبس ذلك الصوت عني فترة طويلة ؟ كيف توقفت عن سماع صوت الكروان والعصافير كافة وحتى ضجيج قطار الشرق وعواء الكلاب وصريخ الأطفال، عند ذلك تذكرت مكوثي الدائم في غرفتي، غدت كالسجن من كثرة البقاء فيها، الجدران الخرسانية تحيط بي لا يربطني بالعالم إلا نافذة يدخل منها الهواء، أُمسك الهاتف الذكي كي أضيع الواقع بالخيال بغير ذرة ندم، لما الواقع الممل وهنا الخيال المسلي؟ مقارنة غبية غير منطقية ولكن تفرض نفسها دائمًا، كنا قد ساهمنا بشكل مباشر أو غير مباشر في صناعة تلك الأزمة التي أصابت الجميع، الكل يمسكون هواتفهم الذكية ويقلبون المنشورات، حيث الهاتف في المجالس وغرف الطعام والنوم..حتى أضحى الحمام أيضًا يدخله الهاتف!

  وبما أننا نغذي تلك المواقع باحسن شئ فينا، بمقاطع مضحكة أو ثقافية أو دينية، تنوع كبير وثري من أعظم الأشياء إلى سفاسفها، عالم يلهيك عن الواقع المر الصعب الممل الغث، حيث الخيال أقل مللًا وألمًا، من الممكن أن يكون أكثر ألمًا إذا شئت، ألم اقل لك فيه كل شئ؟

هذا غير معدل التركيز الذي قل بل لم يعد هناك تركيز أصلًا، مجرد أشخاص كلما حدثتهم في موضوع مهم تململوا يريدون التصفح في الهاتف وإذا نظر إليك بعد فراغك من الكلام تكون إجابته ”هاه؟”

لم يعد التحصيل الدراسي ولا الترابط الأسري ولا الخشوع كما كانوا، أصبح الأمر صعبًا ويحتاج مجهودًا كي تصل إلى حد المعقول فقط، فهل في إعادة النظر في أمر الهاتف من مفر ؟ وهل قرار جلب الهاتف للصغار صحيح ؟ هذه أسئلة يجب إعادة طرحها كثيرًا والاهتمام بإجابتها لخطورتها.

قد يهمك ايضاً:

لكن لو كان الواقع فيه من التسلية والثقافة والرياضة والبيئة الدينية الحسنة ألم يكن جنبنا مشاكل ذلك العالم القمئ ؟ عالم السجن الالكتروني حيث لا نستطيع ترك الهاتف كما لو كان قيودًا؟ الأمر محزن عندما لا نقوم بعمل شئ في حياتنا بتركيز بسبب كثرة المكوث عليه ، والعقول ازدحمت من التنوع الكثير الغير قادرة على احتماله، ولا تقدر على هضم ما تراه وتسمعه من تواليه السريع، ومن امثله تغير الوعي أن المرء قد يشتري منتجًا لا يحتاجه فقط لأنه شاهده في الإعلان مئة مرة فأحس بضرورة هذا المنتج الرائع المبهر ، وقد غدت الحياة بدونه مستحيلة .

 

نعود لفكرة تغيير الواقع وهو ماذا لو الحياة هادئة وفيها أنس مجتمعي وديني ونفسي وسلطنا جهودنا على العلاقات بيينا كي تكون صحية جيدة، ألم يكن ذلك كفاية لنا من هذا الواقع الأليم؟ 

كل تلك الأفكار راودتني بحزن، وصوت الكروان لا يهدأ في الخلفية الفكرية المثارة، صوته الذي أحب صعب أن يتوقف صداه في وقت قليل، فكرت في كيف استرجع نفسي والكروان ؟ كيف أسمعه مرة أخرى بحيث لا افتقده؟ وما كان مني إلا أن جئت بملائتين ومصباح وقررت الذهاب إلى سطوح المنزل، لن أبرح ذلك المكان اليوم، يجب أن أعطي وجهي للنجوم تضفي عليه رونقها العجيب، تعطي عينيه الضوء الذي افتقدته طويلًا، ضوء النجوم بالوانها الهادئة متغيرة الدرجة ، متماشية مع النسيم الذي يسعى حولي ويلامسني بلطف، ومعطيه صورة عن الطبيعة لا أتحمل فكرة هجرها.

 أصور النجوم واضعها خلفية لهاتفي، من لزم الطبيعة والنجوم صعب عليه العودة إلى السجون الخرسانية مرة أخرى، في الطبيعة حياة وتأمل وتسبيح بقدرة الله، فيها أنس وتخفيف عن الحزن الملم، تنظر إلى الشجر بأوراقه الجميلة وهي تتحرك يمنى ويسرى مع الهواء، إلى السماء اللا نهائية، إلى نجوم غير قابلة للعد، تحس بغرقك في جمالها وهدوءها، وكل ذلك مع صوت الكروان يعبر من فوقك فيعطيك اللمسة النهائية من تلك المواساة الخالدة في ذاكرت

التعليقات مغلقة.