نرمين عطية:
ألقى الأستاذ الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر الشريف كلمته بالمؤتمر العلمي الدولي الخامس لكلية الدراسات الاسلامية والعربية للبنات بالقاهرة بعنوان: “الأخلاق وآليات بناء الوعي الرشيد”، والتي نقل فيها تحيات الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر للسادة الحضور، ومهنئًا الأمة الإسلامية والعربية بقرب حلول شهر رمضان المعظم.
وأكد وكيل الأزهر أن المؤتمر يطرح قضية في غاية الأهمية ألا وهي قضية الأخلاق، وقضية الأخلاق في الإسلام قضية مركزية، فلا يكاد يخلو تشريع من التشريعات عقيدةً وعبادةً وعملًا من حكمة خلقية تظهر فتراتها في الإنسان جمالًا وعقلًا وفي المجتمع تكافلًا وتعاونًا، ولا نحتاج في بيان العلاقة الوثيقة بين تشريعات الإسلام وبين الغايات الأخلاقية إلى كثير من النظر، فمن تأمل قليلًا بعض آيات من القرآن الكريم وبعض أحاديث النبي ﷺ تبين له ذلك، فالقرآن يقول “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنْكَرِ”، ويقول أيضًا ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، ويقول أيضًا ” خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا”، ويقول أيضًا ” الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ”، إلى غير ذلك من آيات، ويكفينا قول سيدنا رسول الله ﷺ “إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”.
وتابع “الضويني” بقوله: إنّ العبادات والأخلاق وجهان لعملة واحدة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فالبعد الأخلاقي متظلل في بناء الإسلام عبادةً وشريعةً وسلوكًا، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إن العبادات في الإسلام من صلاة وقيام وصوم وحج وغيرها.. إذا لم تستند إلى ضمير أخلاقي فإنها قد لا تفيد صاحبها يوم القيامة، أو ليس قد أعلم رسول الله ﷺ “لما ذكرت له امرأة بصلاتها وصيامها غير أنها كانت تسيء إلى جيرانها بلسانها وتؤذيهم بكلامها أنها لا خير فيها فهي في النار” ولا أتصور أن تذكر إمرأة بكثير الصلاة والصيام وهي مقتصرة على أداء الفريضة فحسب، فهذا يعني أنها صلت الفريضة وزادت نافلةً وتطوعًا، ومع ذلك لم ينفعها لفقدها البعد الأخلاقي، وفي الصورة المقابلة إمرأة تصلي المكتوبات فحسب ولكنها تصل الناس وتتصدق بالأثواب من الأقط، وهذا في ميزان الصدقات قد لا ينظر إليه ولكن رسول الله ﷺ قال هي في الجنة، وبمقابلة الصورتين تظهر مكانة الأخلاق في ديننا ويتأكد بأنها قرينة العبادة لا تنفك عنها بحال.
وعبر وكيل الأزهر عن تعجبه من هؤلاء الذين يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويعتمرون ولا يبالون بعد ذلك بمظالم العباد وأكل حقوقهم وإيذائهم وإساءة معاملتهم، أو لا يشعروا هؤلاء بأنهم قد يأتون يوم القيامة مفلسين من الحسنات والأعمال.
وتابع “الضويني” بقوله أن معايير تقييم الإنسان في مجتمعاتنا اليوم قد اختلت واضطربت اضطرابًا شديدا، بل تراجعت الأخلاقيات والقيم أمام المادية والأنانية والشهوانية حتى أصبح من المعتاد أن تقيّم كل الأمور بالدرهم والدينار حتى في مجال القيم والأخلاق، ولا علاج لهذه الظاهرة الغريبة علينا إلا بتكاتف علماء الدين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع والمفكرين والمعنيين من أجل وضع تصور عملي واضح لصياغة مجتمعاتنا صياغة جديدة تحيي القيم الدينية والأخلاقية مع معاصرة رشيدة تحفظ الإنسان من العزلة عن الواقع، وأرجو أن يكون هذا المؤتمر خطوة في سبيل تحقيق هذا الرجاء.
وأضاف أن الأخلاق الطيبة الضرورية لصيانة المجتمع فلا بد أن يكون أبنائه على قدر من الوعي الرشيد الذي يكون غاية ومناعة ضد أي تشويش مقصود أو تشويه متعمد،كوعيهم بهويتهم، ووعيهم بتاريخهم، ووعيهم بمسارهم، ووعيهم بما يخطط لهم وإن من أخطر أدوات تغييب الوعي وتزييف الواقع الشائعات والأكاذيب والشبهات التي تسعى بها جهات خبيثة إلى احتلال العقول احتلال ناعم غير مكلف، لاستلام خيرات الأوطان ومقدراتها او على الأقل عرقلة الأوطان عن مسيرتها بعد أن فشلت في احتلال الأوطان احتلالاً صريحًا. وأن ديننا الحنيف وضع منهجًا دقيقا لتكوين العقلية الصحيحة الواعية التي لا تتقبل كل ما يلقى إليها، فقد قال تعالى موضحًا أهم معيار في قبول الأخبار ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا”، وفي ضوء هذا المبدأ يظهر أن قبول الأخبار متوقف على استيفاء شروط الصحة وأن ردها متوقف على فقدها لهذه الشروط وما أنتجته الأمة في ضوء هذا المعيار يعد طفرة علمية كبيرة شهد بفضلها على البشرية كبار علماء الغرب من المستشرقين وغيرهم.
وفي سياقٍ متصل، قال وكيل الأزهر أن الخبر الكاذب مرفوض وإن كانت غايته ومقصده في زعم من يروجه غاية صحيحة ومقصدا نبيلا فإن نبل الغاية لا يبرر فساد الوسيلة والخبر الصادق أيضًا قد يكون مشوشًا او مقتطعًا من سياقه الذي ظهر فيه، وكل هذا مما يتنافى مع منهج التثبت والتبين ويتعارض مع الوعي الرشيد الضروري لمجتمعاتنا وأوطاننا، وقد حذرنا رسول الله ﷺ من قبول أي خبر يلقى فقال “كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع”، وهذا الحديث الشريف يدل دلالة واضحة على أن المتساهل في تلقي الأخبار والشائعات أيًا كانت ومن يقوم بترويجها ونشرها دون تثبت مجازفٌ ومخاطر، بل لا يقل خطورة وإثمًا عن الذي يختلق الشائعات ويروج الأكاذيب، وهذا ان دل فإنما يدل على منهجية الإسلام الفائقة التي سبق بها الأمم في مجال تكوين العقول الواعية التي تبني فكرها ومعارفها.
واختتم “الضويني” حديثه بقوله: إن قوام المجتمع أخلاق حافظة ووعي رشيد وقد قال الشاعر “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا” وكلما زاد المغرضون من أساليبهم بتزييف الوعي واختراق الهوية الصلبة للأمة زادت مسؤولية العلماء عن مواجهة كل فكر هدام من إلحاد هش وشذوذ مرفوض ووسائل تكنولوجية مغرية وسلوكيات استهلاكية براقة وطعن في القدوات، وإن العلماء على اختلاف تخصصاتهم مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى عن تكوين هذه العقلية الواعية التي تستعصي على الخطط الماكرة والأجندات المشبوهة ولا يكون ذلك إلا باجتماعنا على هويتنا وقيمنا وأخلاقنا وتاريخنا وتراثنا، ولندرك جميعًا بأن الأمم تبنى بالوعي السليم والإرادة القوية والعمل الجاد المتواصل لتتحقق النهضة المنشودة بعيدا عن الشعارات الزائفة.
التعليقات مغلقة.