مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

هجاس

23

بقلم – محمد الوهابى:

قد يهمك ايضاً:

وزيرة الثقافة تُعلن أسماء الفائزين بجائزة الدولة للمبدع…

فرقة إسنا تقدم عرض “الهانم” على مسرح قصر ثقافة…

غرز المحراث في الارض عميقا، ترك الحمار والبغلة مربوطين اليه.وركض الى المنزل، بعد ان سمع صياحا مرتفعا قادما منه.لم يحتج لوقت طويل، كي يدرك انه حلقة اخرى من مسلسل العداء الاهوج المستفحل بين زوجته واخته. انها حلقة معركة اخرى بين دجاجتين بئيستين، قد ينتهي، ذات مرة، بان تغرز احداهن منقارها في عين الاخرى؛ الامر الذي سيمزق خم الدجاج هذا بمن فيه.!
كم حاول ان لايدع الخصام يتحول الى عداء مستديم.كان يعرف انها مسألة جراح تحتاج وقتا وتتطلب شروطا كي تندمل.لهذا حاول ان يقنع زوجته، بأن لاتنزلق في عداء عقيم، يمكن ان يشتت العائلة في تراكماته الانفجارية..لكن واقعه اليومي كان حزمة من المنزلقات، وكانت اقوى منه؛ وهاهي الامور قد تطورت الى عداء مستديم.!
صار لايطيق ان يرى الخوف وحشا بلا قيود يركض في عيون اطفاله.لهذا لم يعد غضبه يصمد امام استلطافهم، وهم متعلقون باذيال ثوبه :
-بابا، بابا، بابا..
كان دوي صياحهم المرعوب في دماغه الملتهب، اجنحة سوداء تطير به الى مشارف الجنون..كان يشعر، عند كل مرة تتكرر فيها تلك الانفجارات الحاقدة العمياء، في طوق غباء شديد، تغذيه اختناقات نفسية لاتجد متنفسا غير التلاسن والشجار، كان يشعر معها بإمكانية اندفاعه،ذات مرة، الى ارتكاب حماقة فظيعة..كان يدرك انها حماقة.لكنه كان يتساءل معها عن الحد الذي يمكن ان ينهار عنده كل تعقله، امام الحماقات المندفعة كزنابير مستثارة، في فضاء عائلته المغلق في عزلته.؟
شكر، احيانا، شتات المنازل على جغرافيا القرية، لانه اتاح له ان ﻻ ينشر غسيل عائلته القذر امام الجيران.لكنه، في احايين اخرى، تأسف لعزلة عائلته بعيدا عن اي جار، مما جعلها جدارا منغلقا على جراح تحتك ببعضها البعض، وتصرخ، ألما، في وجه بعضها البعض، وقد تنهش اظافرها، يأسا، في لحم بعضها البعض.!!
لم يشك يوما في ان الجميع مخطئون؛ كما اخطأ هو في إنجاب اطفال لكوخ تصطك اخشابه. لكنه كان يدرك ان الخطأ الاساس، الخطأ-الرحم الذي فرخ كل تلك السلسلة من الاخطاء، يقع بعيدا عن منزله، وعن باقي اغلب منازل القرية..أنها سلسلة ردود افعال خاطئة ، قاصرة، منقذفة كزفرة ضيق حبيس؛ لكن فعل الخطأ الاساس بعيد، بعيد كما كانت المدرسة بعيدة عن اخته وزوجته وامه قبلهما.!
كان يعي تمام الوعي أنها مسألة دورة نفسية ملوثة تأسر فضاء عائلته، تبدأ من غليان يومي على نار الفقر والقهر، يصعد بخارا من ضيق، لابد ان يتجمع غيما من غضب عاجز، ينتهي قطرات هي دموع من شتائم موحلة؛ لتكتمل الدورة، ويستكين رذاذ العاصفة، في انتظار اخرى.!
كان يكره طبع ابيه الجامد، الذي يجعله دائما لا يأتي إﻻ متأخرا، إﻻ بعد ان يداهمه الامر الواقع، مما يضعه في موقع اللاهث وراء الوقائع، حتى لا تنفلت اكثر..كما كان يتضايق من سلوك امه الذي يحاول ان يغرق الشمس وراء إطار غربال ممزق.!
لذلك كان يجد نفسه محشورا في كوخ مظلم، واطء، بارد، متعثرا بين دموع متجمدة، لابد ان تذوب مع شمس النهار، مخلفة وحلا جديدا..ولم يكن يسعفه كل وعيه لإيجاد مخرج بين ارواح بئيسة متداعية على بعضها البعض.! لهذا كان يتمنى، وهو يقترب من المنزل، ان لاينزلق هو الآخر الى ارتكاب حماقة ما، قد تكون فظيعة.!
لكن المنزل كان هادئا.والاولاد يلعبون بمحاريثهم الصغيرة ويصيحون وراء دواب من خيالهم الطفولي.! فأدرك ان الصياح كان داخل دماغه، وان هجاسا أليما ينمو في قلبه..نظر الى جدران داره المقشرة تحت صفعات المطر؛ واسرع عائدا الى محراثه، قبل ان يراه احد.!

اترك رد