مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

ناصر صلاح يكتب عن الشاعر الراحل محمود غنيم

37

لست أدرى من أين أبدأ وماذا أقول؟؟، فمحمود غنيم أحد الدعامات الراسخة التي ارتفع عليها صرح النهضة الأدبية المعاصرة، وهو مزاج الموهبة الفطرية وسحر الطبيعة، وكان لاعتنائه بالفكرة والصياغة معاً أكبر الفضل في تميزه بين قرناء عظماء في تلك الحقبة منذ الثلاثينات إلى عام 1972 عندما لقى ربه.
إن محمود غنيم بصمة متفردة في شعرنا العربي ربما لم يُلتفت إليها الالتفات المستحق، باستثناء رسالة الدكتوراه التي كانت حول شعره عام 1975 للدكتور محمد سلامة أستاذ الأدب والنقد بجامعة الزهر فقط على ما أعتقد.
لا أريد الإطالة حول شخصية الشاعر، إنما أود الدخول إلى محراب قصيدته الرائعة حول هجرة الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وقد كتبها عام 1964 وهى ست وستون بيتاً على بحر الرمل ” فاعلاتن” ثلاث مرات في كل شطر، وهو من البحور الصافية وذات إيقاع موسيقى ساحر، وبعيداُ عن التنظير واستلهاماً لروح القصيدة التي أدعى أنها من قصائد الفجر ومن وحى نبضات نداه وأنها من القصائد التي لا تعطى لكل من أراد أن يكتب فى اتجاهها لأنها لكى تخرج بهذا الجمال والسحر والتفرد، لابد وأن تلقى على قلب كان في لحظة صفاء ونقاء وإخلاص، فهيا نرى ماذا فعل محمود غنيم بها وبنا:
أي ركبٍ دب في جوف الفلاة
يقتفى التاريخ في شوقٍ خطاه؟
تحت جنح الليل يسرى خُفية
في سبيل الله والحق سُراه
يقطع الليل مسيراً فإذا
وشت الشمس به ألقى عصاه
وقريشٌ خلفه لاهثةٌ
تسأل الركبان عنه والمشاة
هكذا يبدأ القصيدة بالاستفهام الذى غرضه التعظيم والإجلال والدهشة والتعجب والانبهار، ثم في ثلاثة أبيات يلخص موضوع المطاردة، ولا يفوته في هذا النسيج أن يحرك صوره، تأمل “ويقتفى التاريخ” وتابعها طوال القصيدة، تأمل “وشت الشمس” وكيف حول المحسوس البعيد الى ملموس قريب وأضفى الإنسانية هنا ولكن إنسانية معادية، بل تأمل الآتي صياغة وفكراً:
فكأن البرق في خطفته
أعينٌ شزراء ودت لو تراه
وكأن الطود في إطراقه
سامعٌ تنصت منه أذناه
وكأن الرمل يُحصى خطوه
وكأن النجم من بعض الوشاة
غير أن الركب يمضى ثابتاً
وشعاراه اتئادٌ وأناه
ويقينٌ بالذي يحرسه
من يلُذ بالله لم يخش سواه
هكذا حلبة الصراع.. حول فيها الطبيعة التي جعلها شعراء أخر من عوامل الحماية للركب المقدس إلى عوامل استخبارية لقريش وكأنها مخابرات أمن الدولة، لا كأنها القمر الصناعي الأمريكي الذى بث في الآونة الأخيرة صوراً متحركةً لأهم المكاتب في مصر، تأملوا عبقرية الموهبة عند محمود غنيم حينما يفرق أساليب المراقبة على أدوات الطبيعة للركب فالبرق أعينٌ شزراء لأنه من فوق، والجبل يتصنت لأنه بجوار الركب ومحيطٌ به، والرمل يحصى الخطو لأنه تحت قدميه، والنجم السيار يراقب ويشى به، أدت هذه الصور إلى توضيح قسوة هذا المناخ العدائي للدعوة ورسولها الذى لم يهتم بهذا كله .. لماذا؟ لأن “من يلذ بالله لم يخش سواه” ولذا فإن هذا الركب:
لا دروع سابغات لا قنا
مشروعاتٌ لا سيوفٌ منتضاه
قوة الإيمان تغنى ربها
عن غرار السيف أو سن القناة
ومن الإيمان أمنٌ وارفٌ
ومن التقوى حصونٌ للتقاه
طالما الحماية من الله تعالى، وطالما الإيمان بذلك يزين القلوب، فلست في حاجة إلى سيوف وقنا ودروع، فقوة الإيمان تكفى صاحبها وتأملوا بيت الحكمة الأخير بالمقطع وليت كل حاكم يضعه نصب عينيه.
ثم ينتقل بنا بالحديث عن قيمة هذا الركب المقدس وفضله في أبيات تنم عن نفسها بنفسها:
ركب طه وأبى بكر سرى
في حواشي الليل فانجاب دجاه
ما اهتدى بالنجم في جنح الدُّجى
بل سرى النجم لعمرى في سناه
يبدأ الرجل في تعديد فضائل هذا الركب على كل مكان مر به أو منه، عاكسا تلك الصورة التي حول فيها الطبيعة إلى مخابرات، ليبين ويوضح قيمة الركب والخير الذى في ركابه.
آه لو تعرف أطباقُ الثرى
من أقلّت أرضُها الصمّاء آه
لو درت من حملتُه.. لثمت
قدميه حين تخطو قدماه
لو درى المزنُ به ظلّله
من هجيرٍ يشتكى الضبُّ لظاه
لو درى القفرُ بمن يجتازُه
ضجَّ بالتسبيح والذكر حصاه
لو درى الدّوحُ بمن مر به
لحنى الدوحُ له شمَّ الجباه
الله الله الله .. تمتعوا وانشدوا مع هذا الساحر لا بل المؤمن العاشق لسيرة نبيه.. تأملوا الصورة العكسية تأملوا الرمل الذى كان يحصى خطوه لو أدرك قيمة من يخطو عليه للثم قدميه وضج بالتسبيح والذكر.
من هو الركب نبي مرسل
وحوارىٌ تهدى بهداه
ومشى التاريخ من خلفهما
مرهف الأذان ترنو مقلتاه
في يديه لوحه ما همسا
همسةً إلا وخطته يداه
قلت لكم سابقاً تابعوا التاريخ في القصيدة، وكيف استخدمه غنيم كمتابع راوٍ يسجل ويحكى، جعله لا يترك همساً همس به الركب إلا خطه في لوحه.
إن يكن هاجر منها كارهاً
فغداً يأتي على رأس الغزاة
وغداً يشعلها بيضاء في
بلدٍ جار عليه ونفاه
وغداً يعفو ولو شاء غدا
كلُ مكىٌّ غريقاً في دماه
وغداً يجنى رؤوسا أينعت
في القصاص العدل للناس حياه
ومن العفو ضرارٌ وأذى
ومن العفو عقابٌ للجناة
لن أتحدث في حواشي الأبيات فقط أود الإشارة إلى أن غنيم لا يترك فرصة لمنحنا بيتاً من الحكمة الغالية تأملوا ” ومن العفو ضرارٌ وآذى ومن العفو عقابٌ للجناة” تأملوه جيدا لتدركوا أن العفو ليس مسامحة فقط بل ربما كان عقاباً شديداً أيضاً، فحين انتظروا عمل السيف في أعناقهم، جاء الذبح بالعفو “اذهبوا فأنتم الطلقاء” ليمنح الفرصة لكل عاقل خُدع ويبقى خارج حدود العفو كل متكبرٍ فاجر.
لقد أمتعنا محمود غنيم – رحمه الله – بهذا الانتقال اليسير السهل من محادثة الأجواء لتعريفها بقدر الركب إلى فضله على قومه بما سيكون بعد الفتح، ليت رسامي الكاريكاتير الدنماركيين – الذين ضلوا وأساءوا إلى الرسول الكريم – يقرأون الأبيات السابقة، بل والأبيات التالية أيضاً ليدركوا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون.
إن ما حدث لرسولنا الكريم قبل الهجرة أضعاف ما يحاولونه الآن، ولكن هيهات فما كان له إلا الفتح والنصر وما كان لهم إلا الخزي وعذابٌ أليم، هذا المعنى هو ما أراده محمود غنيم في أبياته التالية:
رحبت يثرب بل ألقت على
أذُن الدهر هتافاً فوعاه
“طلع البدر” نشيدٌ خالدٌ
كلما ردده الدهر شجاه
أيها الأنصارُ هذا يومُكم
يا سيوف الله في حرب الطغاة
أذكر يا بدر ما شاهدته
من جنود الله في حرب عداه
واحكِ يا إيوان كسرى للورى
ذلك البرج المعلى من محاه
ومن أجواء الاحتفال باستقبال الركب المقدس الى رجولة مستقبليه ودورهم البارز في الفتوحات الإسلامية وتوطيد اركان الدولة يمر بنا محمود غنيم.
يا طريداً ملأ الدنيا اسمُه
وغدا لحناً على كل الشفاه
ليت شعرى هل درا من طاردوا
عابدوا اللات وأتباع مناه
طاردت في الغار من بوّأها
مقصداً لا يبلغ النجمُ مداه
ورأى التاريخ ما أذهلهُ
فانثنى من دهشته يفغر فاه
هاله فتحٌ ترامى أفقه
وأذانٌ ردد الكونُ صداه
أي دين ذلك الدينُ الذى
حوّل الأفكار عن كل اتجاه
صهر الأنفسَ حتى لم تعد
تدركُ الأنفسُ شيئاً ما عداه
كم أبٍ خاصم في الله ابنه
واخ حارب في الله أخاه
باسمه أمسى يسُوسُ الأرض من
يحلبُ النوقَ ومن يرعى الشياه
ويجوب البحر من لم يرهُ
غيرَ طيفٍ من خيالٍ في كراه
ناشراً من فوقه أعلامه
تفزعُ العِقبانُ منها والبزاة
هكذا يصوغ لنا محمود غنيم أضواء السيرة العطرة شعراً مبهراً، وهكذا يبين قيمة هذا الدين، وهذا النبي ويخرج من القصيدة بنفي السحر عنه صلى الله عليه وسلم وملخص هذا الفضل الذى من به الله على العرب بل على العالم أجمع قائلاً:
لم يكن طه لعمرى ساحراً
يخرقُ العادات أو يتلو رُقاة
كلُّ ما جاء به من معجزٍ
سحر الألبابَ.. قرآنٌ تلاه
مرسلٌ نال بآوى الذكر ما لم
ينل من قبلُ موسى بعصاه
وحد العُرب وكانوا بدداً
كهشيم النبت من شاء رعاه
قوةٌ كامنةٌ أخرجها
مثلما يخرجُ طلعٌ من نواه
فإذا التيجانُ تهوِى وإذا
برُعاة الإبلِ للدنيا رُعاه
وللأسف الشديد عاد العرب كهشيم النبت من شاء رعاه، لأنهم لم يدركوا قول ابن الخطاب لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام فوالله لو ابتغينا العزة فيما سواه لأذلنا الله.
شكراً لمحمود غنيم على رائعته الفريدة في الشعر العربي، وليسامحني أن تطاول حرفي من محبته ودهشته، فخط بين الكنوز حروفا.

اترك رد