مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

مصير

5

بقلم – خديجة أجانا:

قد يهمك ايضاً:

الأربعاء المقبل..”غربان لا تأكل الموتى” للزميلة…

الأعياد في مصر القديمة «ندوة» أدباء مصر السبت المقبل 

على كرسي متحرك، تدفعه إلى ركن قصي من حانة شاحبة الملامح ، خفتت أضواؤها و تعالت أصوات روادها، تختلط فيها روائح عطور رخيصة بروائح الخمرة و السجائر لتسد جميعها النفس و مداخل الهواء … تصدح “الست “:
“أروح لمين و أقول يا مين ينصفني منك
ما هو أنت فرحي و أنت جرحي و كله منك …”
تضع على مائدته قنينة “بيرا “، تشعل سيجارة و تمدها إليه، يأخذها بيسراه المرتعشة، تدير ظهرها و تلتحق بالشغل …
تشتغل دون كلل، تشرب كأسا مع أكرش مسن، تمسح رأس أصلع، تهمس في أذن أطرش كلمات فينفجر ضاحكا، ترفع كأسها لزبون جديد فيرتفع ضغط شهوته، تحكي نكتة عارية تفجر ضحكات المخمورين.
يتابع شغلها … يرى نفسه لاهثا على قدميه إليها ، و قد ترك وراءه وردة تذوي و براعم جائعة … يلبي كل طلباتها و يزيد عليها ليعود آخر الليل مخمورا مفلسا …
يتيه في أدغال ذاكرة علا معظمها الصدأ، يحاول اقتناص لحظة فرح شاردة ،بالكاد يقبض على ذيلها لتنقض عليها لحظات حزن ضارية … و تصدح الست :
“و اليوم في بعدك بيفوت سنين
. أروح لمين ؟ ”
و يردد في قرارة نفسه، بعدما خانه صوته كما خانته قدماه و يده اليمنى و … يردد :
” أروح لمين و مين ح يرحم أسايا
و أقول يا مين و مين ح يسمع نداي؟
… ما ليش حبايب في الدنيا ديه ”
تتابع شغلها ؛ تعب كأسا مع هذا، “تتفاصل” مع ذاك، تهدي قبلة لآخر و … يبلغ السكر منها مبلغه، تتهالك في حضن برميل أشيب و … تبدأ الرؤوس المشبعة خمرا تتثاقل ، و يبدأ أصحابها ينفضون جيوبهم ليغادروا … تهمس في أذن النادل و تدس في جيبه ورقة خضراء ، تتأبط ذراع العجوز ،ترخي رأسها على كتفه و يغادران يترنحان … تتبعهما عيناه إلى باب الحانة، ترتدان لتغرقا في ملح العيون فيناشدهما :
“أ عيني لا تجودا و اجمدا
لا تبكيا صخر العدم …”
يغادر الزبائن تباعا و ينتظر دوره خلف مائدته البئيسة ،تؤثثها قنينة “بيرا “يتيمة فارغة و منفضة سجائر، يغلبه النعاس فيسقط رأسه على كتفه …
كتلة عظام عليلة ، التصق بها الجلد بعدما غدرها اللحم و هجرها، يحمله من على كرسيه المتحرك و يضعه على فراش مهترئ مقعر ، يناوله سيجارة محشوة و يغادر .
يسحب أنفاسا عميقة متتالية ، ينفث آهات متقطعة ، يطارد خيط ذكرى ينفلت و يحرر دمعه .

 

اترك رد