مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قراءة نقدية لقصة (رغيف خبز) لمحمود سيف الدين الإيراني

230

قراءة نقدية لقصة (رغيف خبز) لمحمود سيف الدين الإيراني

بقلم د. منى محمد حسن بركات

تتناول هذه القراءة النقدية قصة (رغيف خبز) للكاتب الفلسطيني (محمود سيف الدين الإيراني)؛ وهي إحدى قصص مجموعته القصصية الرائعة (أول الشوط) التي صدرت في الأردن سنة 1937. وهذه القصة تدور حول بعض الأجواء الاجتماعية -في فلسطين- التي صاحبت دخول تركيا الحرب العالمية الثانية وما استتبع ذلك من مآسي اقتصادية/ اجتماعية؛ مرورا ببعض أجواء الأزمات السياسية التي أدت تداعياتها إلى نكبة فلسطين.

فالقصة لها نكهة اجتماعية: اقتصادية/ سياسية ظاهرة، والأدب الحق رسالة والكاتب الأصيل ابن بيئته؛ يعبر عن ضمير أهله وشعبه. ونحن عند قراءتنا لأي نص أدبي لا نستطيع إلا أن نقرأه تحت ظلال الحالة الاجتماعية والإنسانية والسياسية التي عاشها الكاتب مع أبناء بلده. وقد عاش الكاتب )محمود سيف الدين الإيراني( هو والشعب الفلسطيني الصامد في ثلاثينيات القرن الماضي –ولا يزال يعيش- ظروفاً بشعة من تجويع وقتل وتدمير وتهجير وحروب طاحنة؛ لذلك فعنوان (رغيف خبز) الذي اختاره الكاتب لقصته يعبر بالفعل عما عاشته فلسطين في تلك الفترة من القرن العشرين تحت وطأة الحكم التركي الذي دخل الحرب العالمية الثانية “فأفسد كل شيء في بلدهم الهادئ الوديع”([1]).

فرغيف العيش –كما يرى الساسة- سياسة، ورغيف العيش هو المؤشر الرئيس لعيْش مجتمع؛ نعم إنه التجويع والفقر والقهر؛ إنها كرامة المواطن والوطن المفقودة، ومن ورائها البطون الخاوية التي كانت بحاجة إلى (رغيف خبز)؛ إنها الظروف التي أدت إلى انكسار القلوب والنفوس والحب والطفولة وأشياء كثيرة جميلة في الأرض المقدسة؛ بهدف دفع الفلسطينيين إلى الهجرة من وطنهم كما هو مخطط لهم. ولو بحثنا في بعض أوراق مآسينا القديمة -والمعاصرة أيضا- فسنجد أن التجويع والفقر القهر والقمع حاضرين في كثير من تفاصيلها؛ يشكلون رحماً خصبة للإبداع؛ فمن كل ألم ومن كل وجع تولد قصة أو رواية أو مسرحية أو قصيدة؛ ومن الألم والوجع ولدت قصة (رغيف خبز).

في هذه القصة التي بين أيدينا يأتي العنوان (رغيف خبز) فاتحا لنا ذراعي النص؛ باعتباره نصا موازياً لمتن القصة القصيرة؛ لنتساءل ونبحث عن الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي سنعاينها في قصة (رغيف خبز) التي أتى عنوانها خازناً للنص ومعبراً عنه؛ حيث يعدُّ العنوان مرتكزاً أساسيا في قراءة النصوص؛ نظراً لما يحمله العنوان من دلالات تعبيرية وإيحائية؛ فقد أصبح يجسّد السند الأول لسبر أغوار النص وولوج تلابيبه.

بدأ الكاتب نصه بعبارة شعرية؛ “انبثق الفجر بعد أن ظلَ شارداً في ضمير الليل، سارداً في هذا التيه الضرير من الظلام يلف الوجود كله ويلقى الإنسان والطبيعة، والعشب النامي والحشرات المختلفة النشيطة.. في سبات عميق..”([2]). وتتماهى هذه العبارة الشعرية مع عنوان القصة (رغيف خبز) ومع حالة التجويع والفقر والقهر والقمع التي كان يعاني منها الشعب الفلسطيني في ذلك الوقت؛ فضمير الليل السارد في هذا التيه الضرير من الظلام الذي يلف الوجود كله إنما هو صدى الحرب العالمية الثانية “نار الحرب اندلعت على حين غرة، كهاته الصواعق تقذفها السماء والناس في غفلة وأمن”([3]). وهو رمز للجنود الأتراك الذين كانوا يداهمون البيوت فيرعون ساكنيها بوحشية؛ ليختطفوا منها الرجال ويسوقونهم لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. أما التيه فإنه تيه القلوب التي تتألم من جراء الظلم والفقر والجوع الذي أورثهم “وجوم وصمت، لا يتحدثون بشيء وإن كانت صدورهم تنطوي على كلام كثير وتزخر بشتى الخلجات.. لخطوهم الوئيد على أرض الشارع وقع كئيب يهمس في هذا السكون الشامل بنغم يائس وإيقاع رتيب مستسلم: وهذا ثقيل على النفس.. ثقيل.. ثـ .. قيل..”([4]).

فيا هول هذه العائلة التي خرجت من بيتها -من يافا إلى القدس- راحلة عبر الشارع ذو الوقع الكئيب الذي يهمس في هذا السكون الشامل بنغم يائس وإيقاع رتيب مستسلم؛ لأمر ثقيل على النفس؛ نعم هو ثقيل على نفس زوجة “مجهدة مكدودة تحمل طفلتها بين ذراعيها”([5])؛ لتذهب بعيداً عن زوجها الذي اضطرته “نار الحرب اندلعت على حين غرة؛ كهاته الصواعق تقذفها السماء والناس في غفلة وأمن .. (…) هذه الحرب أفسدت كل شيء في بلدهم الهاديء الوادع”([6]). والشركة التي يعمل فيها إلى أن يرحِّل عائلته إلى القدس أما هو “فيجب أن يبقى في يافا يؤدي عمله.. ريثما ترى (المصلحة) أن نقله يفيدها في القدس”([7]).

فهذه العائلة التي طحنتها الديون وعصف بها الجوع هي المعادل الموضوعي للوطن المقهور، ولعل هذا المقطع يلخص تلك المأساة التي عانى منها الوطن في تلك الفترة: “لم يكن ليجري لها ببال أن الحرب تحمل في تضاعيفها كل هذا الشر.. أجل؛ فقد رأت بأم عينها كيف كان الجند يدأبون على اقتحام الدور.. فيرعون ساكنيها بوحشية. يدورون في البيوت غرفة غرفة، وحجرة حجرة.. حتى إذا عثروا بشاب أخذوه وضموه إلى (القطيع) ثم ساقوهم جميعاً.. إلى أين؟ إلى الحرب.. أما السلطة فلم تكن لتحفل شيئاً.. عويل الأمهات.. صراخ الزوجات.. بكاء الأطفال.. ماذا؟. كل هذا يلقاه رجال (السلطة الأتراك) بالسخرية والهزء حيناً وبالسوط والتشريد أحياناً كثيرة.. يا للسماء! إن كل هذه الصور البشعة القاسية.. تلوح الآن واضحة في خيالها حتى صرخات اليأس الأليمة المنبعثة من القلوب المروعة تدوي في أذنيها كأنها تسمعها لأول مرة”([8]).

إنه مقطع غاية في القسوة والخيبة والألم؛ لا نملك أمامه -بضعف حيلتنا- إلا أن نقول: (يا خفيَّ الألطاف نجنا مما نخاف). وهذا المقطع يؤكد أننا أمام نص صاحب رسالة يلامس الواقع ويتحدث عن صورة محزنة من؛ صورة محزنة من صور كثيرة يجب أن يندى لها جبين الإنسانية.

وقد زخر هذا النص بلغة بليغة فريدة متوهجة؛ لغة تجمع بين الشعر والنثر والسرد القصصي بكل حنكة واقتدار؛ فلا نكاد نقرأ جملة إلا ويحضر فيها رمزاً أو تشبيهاً أو استعارة أو كناية؛ ومع ذلك نجد النص لا ينفلت من يد الكاتب؛ ليحافظ بكل مهارة على لغة القصة القصيرة؛ حاضرة ومهيمنة على كل انتفاضات تلك اللغة المنزاحة الرائعة.

ولعلنا نذكر في عجالة أهم السمات البلاغية في هذا النص:

  • العنوان ودلالاته وانزياحاته التي سبق أن تطرقنا إليها فيما سبق.
  • عتبة الاستهلال التي تحضر فيها الكناية والاستعارة المكنية والتشبيه؛ “انبثق الفجر بعد أن ظلَ شارداً في ضمير الليل، سارداً في هذا التيه الضرير من الظلام يلف الوجود كله”.
  • وكذلك استعمل الكاتب -بعد الاستهلال- الكثير من الاستعارات والكنايات والرموز؛ لكي يشير إلى وقع الحرب العالمية الثانية ووطأة تصرفات الحكومة التركية مع الشعب الفلسطيني ومردودهما على المواطن الفلسطيني الذي كان آمنا في بيته؛ ولعل في هذين المقتطفين ما يوضح ذلك: “وفجأة هبت ريح العاصفة قوية مجتاحة، وأربد الأفق وزأرت الأعاصير.. ولف الكون ظلام.. أجل على هذه الصورة تماماً يبدو لها كل ما حدث”([9]). “الحياة السهلة اللينة الرضية انقلبت جحيماً من الضنك والعوز، والعيش اليسير المؤاتي غدا عسراً كله، وزوجها الرجل القوي الجلد الذي (ينزع القرش من بين فكي سبع) هو أيضاً كالآخرين. أجل كالآخرين.. أي اخفاق هذا – رغيف الخبز – كم هو ثمين وكم هو غال إن زوجها ليبذل في سبيل الحصول عليه – ليعولهم – شبابه ويجود بنفسه”([10]).
قد يهمك ايضاً:

ولا أريد أن أتطرق إلى كافة ما ازدحم به النص من صور بلاغية في هذه القصة وإنما أترك للقارئ اكتشاف ما قد توحي به بقية الصور البلاغية من أفكار واستنتاجات.

وقد تعددت الأصوات السردية عند الكاتب في هذه القصة؛ فتوزعت بين استخدامه لضمير الغائب الذي سيطر على القصة، ويكون السارد من نوع السارد أو الراوي العليم الذي يعرف كل شيء عن الأحداث وتطورها في القصة، وفي أحيان أقل استخدم ضمير المتكلم. وقد تراوح استخدام الراوي لضمير الغائب بين الفعل المضارع الذي يدل على الحال والاستقبال، وبين الفعل الماضي الذي يدل على انقضاء الحدث ليصبح مجرد ذكرى؛ وكأن الكاتب يريد أن يربط الكل بالأنا والماضي بالحاضر ليحملهم جميعاً مسئولية المستقبل.

والخلاصة أننا أمام قصة قصيرة ذات سرد قصصي يفاجؤنا فيه هذا الازدحام من الصور البلاغية الرائعة التي جاءت خادمة للنص؛ موظفة بشكل دقيق للتعبير عن أحداثه وتقديم رسالته. وقد جاءت هذه الصور عفوية في معظمها، غير مقصودة لذاتها ولكنها ألبست النص رداءً بهيا أثرى المضمون وساهم في إيصال الرسالة التي يحملها.

أما مضامين هذه القصة فتتمحور حول الهم الوطني والاجتماعي، والكاتب صحفي ومعلم وقاص فلسطيني قدير مطلع على الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي في فلسطين؛ ولذلك استطاع وباقتدار أن يتناول لقطات صغيرة منتقاة بعناية تلقي الضوء على بعض من أزمات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في فلسطين إبان الحرب العالمية الثانية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]() محمود سيف الدين الإيراني، (أول الشوط)؛ مجموعة قصصية .

[2]() المصدر السابق.

[3]() المصدر السابق .

[4]() المصدر السابق .

[5]() المصدر السابق.

[6]() المصدر السابق.

[8]() المصدر السابق .

[9]() المصدر السابق.

[10]() المصدر السابق.

اترك رد