مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قراءة للقصة القصيرة ” الجسر” للقاصة هادية حسانى”

5

بقلم- الطيب جامعي:

الجسر
بدت واثقة، متمكنة، شرحت أطروحتها بإطناب، أجابت عن كل أسئلة اللجنة، أما هو فجالس بآخر مقعد، تطوح به أحاسيس وهواجس مبهمة متضاربة، هي مزيج من خوف واضطراب وفرح وحزن..
حانت اللحظة الرهيبة، فساد الصمت، صدره يكاد ينخلع..
«قررت اللجنة بالإجماع منحك شهادة الهندسة بملاحظة ممتاز »
لم يعر اهتماما لهيبة المكان، قفز كالمجنون، متخطيا الصفوف وسط الرقاب الملتوية، الجميع مشدوهون ! صعد المنصة، ضمها بعنف محاولا أرجحتها لكنّ وزنها وذراعيه خذلاه، دار بها عدة دورات، فماجت القاعة من حوله، كأنه يحلم… انهالت عليه الصور كشريط لا نهاية له…

جرجرته كخرقة في ذلك الفجر الأغبش، الذي مازال أعشى يطل من النوافذ، قضى أياما عصيبة، بطعم الحنظل، بيد أنه صمد صمود الأبطال، مثل كل رفاقه من مساجين الرأي الذين عشقوا البلاد ونسائم الحرية، ظل أصلب من جلمود، أمام إصرارهم على اعترافه، تفننوا في تعذيبه، لكن عزيمته لم تفل، كان متأكدا من انتصاره، والحلم الذي رآه هو أكبر دليل ! نعم الحلم !
أحيانا يخاطبه صوت من أعماقه :
– أليس ضربا من الجنون أن تواجه أعتى الجلادين، هؤلاء الوحوش الضارية بمجرد حلم !؟ تتحدى عش الدبابير بحلم يا ناجي !؟ أية مفارقة هذه !؟
– نعم أتحداهم، وسأخرج لأجل حبيبتي !
في تلك اللحظات السوداء، تعلم كيف يترك لهم جسده، و يرحل بخياله الحر، نعم خياله !؟ لم يكن يملك سلاحا غيره ! حتى عند غيابه عن الوعي، كانت معه في اللاوعي..

هي مجرد صورة مقتطعة من مجلة، تشبه حلمه، ألصقها على جدار غرفته بالمبيت الجامعي، وببيتهم في قريته النائية، ثم رسمها بدمه على جدار زنزانته الموحشة..
حلم بها طفلة بهية، وجهها كالبدر، تغازله في النوم واليقظة، صارت حياته، عالمه الوردي، اختار لها اسما، حكى عنها لأمه..قالت:
– حلم جميل! خير يا وليدي، بشرى خير، البنت هي الدنيا ! الدنيا ستضحك لك !
وانتقل الحلم إلى أمه، فامتلات أملا وفرحا..
اعتقلوا أغلب رفاقه، فأحس أن دوره اقترب، فمد لها الصورة، وكأنه يسلمها ابنته فعلا :
– حافظي عليها !
نظرت إليه مغالبة دموعا وعبرة خنقتها فخرج صوتها بنزق :
لا تخف ! تمسك بحلمك هو أملك !
دستها في صدرها حتى عاد إليها. ورغم طرده من وظيفة التعليم لم ييأس، وازداد تشبثا بحلمه الأكبر، إنجاب بنوتته الرائعة !
و غدا حلمه يكبر ويكبر…حتى صار حقيقة…

يرفعها إلى أعلى، ينزلها على كتفيه وصدره، يعانقها، فتنتابها هستيريا ضحك وهي تأرجح رجليها، خوفا من أن تسقط، لن تكبر في نظره أبدا، حتى وهي شابة تجاوزت العشرين، ستبقى طفلته المدللة..
تجلس على ساقيه، وترتمي في حضنه، فعلا طفلة لم تتغير ! تذكره بحضن المرحومة أمه، وحبها الذي فاق الوصف، يرفع عينيه يراها شامخة في «حرامها» الأحمر تحت نخلتهم، وهي تبتسم إليه، ينسحب من هيفائه بسرعة، يصل النخلة بلمح البصر، لا وجود لأمه، كانت سرابا، لكن آثار قدميها الحديثة مرسومة على الأرض بوضوح، نعم هي ! لا يمكن أن يخطئها بأصبعها الأكبر المفقود في القدم اليسرى الذي بتر يوم رمت بنفسها في البئر لإنقاذه، مد يده ليتأكد من وجودها، خط فوقها فعلا هي حقيقة وليست خيالا، ركض في أطراف الحقل باحثا عنها، لكن لا أثر لها، بيد أنه يشعر بوجودها في كل شيء…
هادية حساني
تونس
———ا——

****القراءة ****
مقاربة عامة
نحن إزاء نص جديد للقاصة التونسية هادية حساني، نحاول أن نستكنه ثناياه، و نغوص في مكنوناته.

العنوان ” الجسر”، مفتاح النص: القَنْطرة ونحوها مما يُعبَر عليه، وسيلة للعبور من ضفة إلى أخرى، من برّ إلى برّ…
فما عسى أن تكون الضفتان؟ و لماذا الجسر؟ و ما كانت الضفة- المرسى؟!
العنوان وظيفي، دافع للقراءة…

نظرة سريعة، ولكن فاحصة للقصة، تجعلنا نقف على الخاصية البنيوية لهذه العمل الأدبي، فقد بدأت بنقطة النهاية، (و انتهت بها أيضا). و هي لذلك بنية دائرية. و بين البداية و النهاية ارتسمت معالم القصة و اكتملت، و قد أوفت بما هو مطلوب، فلم تعد في نفس القارئ حاجة للاستزادة لتوضيح غموض أو إجابة عن سؤال حائر، و هذا من تمام القصة القصيرة: تنتهي بلحظة التنوير التي تنير كل” ظلمة”، أو كمن يأخذ في الصعود إلى أعلى الربوة، حتى إذا ما وصل القمة اتضحت له كل المعالم بارزة أمام ناظريه. النص عود على بدء و ثبات ثبات الذات في وضع متقلقل…
“الجسر” جسر تعبره الذات من ضفة التوتر و التأزم إلى الضفة المقابلة، ضفة الانفراج و الوجود و الاستقرار في الوجود.
الجسر / الحلم طريق الخلاص… رسمٌ لواقع الظلم و القهر الذي تردى فيه صاحب كل فكر حر و لاسيما من الشباب الطلابي في فترة الدراسة الجامعية. أمّا ناجي فما هو في الواقع إلا نموذج لواحد من هؤلاء.
الجسر، قصة المقاومة و الصمود، ولكن بطريقة خاصة جدا: الحلم.
و الحلم في المقاربات النفسية ما هو إلا نوع من الوسائل الدفاعية للذات، به تحقق توازنها.
و قد جاءت اللغة سلسلة صافية، مع بعض الألفاظ من العامية” حرام”/ “بنوتة” تجذيرا للقصة في الواقعية.

/// لعبة الزمن///
إن المتتبع لهذه المنتوج السردي يستوقفه الاستعمال اللافت للزمن، و به، و فيه استفرغت كل المعاني تقريبا

* كسر خطية الزمن/ الاسترجاع*
استعملت القاصة بمهارة تقنية السرد غير الخطي، أو ما يعرف ب”خلخلة الزمن الواقعي”. فهذا التتابع ( للأحداث كما هي في الواقع) عادة ما ” يكسر بأنماط أخرى من التوظيف الزمني، وهي ما يسميها جيرار جينت المفارقة الزمنية من خلال استعمال نمطي الاستباق والاسترجاع لإضفاء التشويق على القصة فنجد القاص يلجأ أحيانا إلى الاستباق أي ذكر أحداث مستقبلية نسبة إلى الحدث المسرود في اللحظة الحاضرة وفي أحيان أخرى يلجأ الى الاسترجاع أي استعادة أحداث من الزمن الماضي بالنسبة إلى الحدث المسرود في اللحظة الحاضرة”. (الزمن السرديhttp://www.uobabylon.edu.iq/uobcoleges/lecture.aspx?fid=10&lcid=64263)

قد يهمك ايضاً:

دار الكتب والوثائق تحتفل بيوم الأسرة 

وزيرة الثقافة تُسلم جوائز النسخة السابعة لمسابقة الصوت…

بدأت القصة بلحظة فارقة في حياة الشخصية الرئيسية، ناجي: لحظة تخرج ابنته” «قررت اللجنة بالإجماع منحك شهادة الهندسة بملاحظة ممتاز »،
فيتساوى بذلك زمن الحكاية و زمن السرد( زمن الخطاب)، غير أن القاصة سريعا ما “تلتفت إلى الوراء” لاسترجاع حادثة حصلت في بداية حياته المهنية، حين بدأ يخطو أولى خطواته لرسم معالم مستقبل يحلم كل واحد أن يكون مشرقا، مهما اسودت الآفاق”. استعادت القاصة لحظة القبض عليه و جرجرته إلى المعتقل شأنه شأن من سبقه في هذه الطريق، طريق الحرية المزروعة أشواكا. هذه اللاحقة الزمنية سرعانما عقبتها لاحقة أخرى لهذه اللاحقة حين تذكرت ذلك الحلم، الحلم بإنجاب بنت و لمَّا تزلْ الشخصية في مرحلة الدّراسة الجامعية

” هي مجرد صورة مقتطعة من مجلة، تشبه حلمه، ألصقها على جدار غرفته بالمبيت الجامعي”.

ومن هذه اللحظة تعود القاصة من جديد إلى زمن القص الموضوعي، إلى لحظة التتويج و التخرج.

” يرفعها إلى أعلى، ينزلها على كتفيه وصدره..”،

ثم و من جديد تطالعنا ” لفتة ورائية”: إلى تذكر أمه لحظة إنقاذها له ( ناجي).

” لكن آثار قدميها الحديثة مرسومة على الأرض بوضوح، نعم هي ! لا يمكن أن يخطئها بأصبعها الأكبر المفقود في القدم اليسرى الذي بتر يوم رمت بنفسها في البئر لإنقاذه”.

يبدو النص بهذا التواتر الزمني المخصوص مراوحة بين الحاضر و الماضي. و قد استغلت القاصة هذا التكسير لخطية السرد للإحاطة بالشخصية من عدة نواح: اجتماعيا، نفسيا…
أما الاستباق فقد كان استعماله ضعيفا عموما.
“نعم أتحداهم، و سأخرج لأجل حبيبتي!”
“البنت ستضحك لك”
استباق من وظائفة دعم الذات و إكسابها ثقة و طمأنينة.

* الزمن النفسي *
إن الحديث عن الزمن يجرنا إلى الحديث عن زمن آخر يختلف عن الزمن الموضوعي/ الواقعي/ التاريخي…
” ويتجلى الزمن النفسي في تداعيات الشخصية، وذكرياتها ومنولوجاتها الداخلية، وتيارات وعيها، وربّما برز في أحاديثها المباشرة أحياناً. وليس لهذا الزمن مقاييس ثابتة أو محددة منطقياً، ولكن يمكن للباحث أن يتبيّن طبيعته من خلال اللغة التي تجسّد العالم الداخلي للشخصية..” ( موقع الكتروني، ستار تايمز، المكان و الزمان.)
هذا الزمن قد يطول و قد يقصر بحسب الحالة النفسية التي عليها الشخصية.

“جرجرته كخرقة في ذلك الفجر الأغبش، الذي مازال أعشى يطل من النوافذ، قضى أياما عصيبة، بطعم الحنظل”.
زمن القص و الحكاية على قصرهما يوحيان بما فيه من طول و تمدد، و لا ريب في ذلك مادام زمن العذاب، فكل لحظة فيه بطول المدى، تتحول فيه الثواني إلى دقائق، إلى ساعات، إلى أيام، إلى سنوات… و يطول و يطول حتى تظن الشخصية كل الظنون، و أن لا نهاية لهذا العذاب. غير أنه ما كان يخفف من حدته و وطاته هو ذلك الحلم “إنحاب بنوتة”.

**زمن القص**.
إن الناظر في الزمن الذي استهلك في القص/ القراءة يقف على قصره، فهو لا يتعدى الدقائق المعدودة أو اللحظات، غير أن زمن الحكاية بما فيها من شخصيات تتحرك في أطر زمكانية تمتد على فترات طويلة. انطلقت منذ فترات الدراسة و امتدت إلى ما بعد التخرج و الطرد من الوظيفة، إلى إنجاب البنت و نشاتها التي امتدت على أكثر من عشرين سنة. غير أن الكاتبة لحظة الكتابة استعملت تقنية الحذف، فسكتت عن فترات طويلة أحيانا، كسكوتها عما حصل بعد الطرد إلى حد ميلاد البنت و دراستها و تخرجها. هذه الفترة لا نعلم عنها شيئا، سواء تعلق بالبنت أو حتى بالأب. و هي تقنية مستعملة في القصة القصيرة قصد الوصول إلى الغاية و الهدف بسرعة، بعيدا هن الإغراق في التفاصيل التي تشتت الحدث الرئيس و الحالة الراهنة: حالة امتلاء النفس بالحلم و هو يتجسد على أرض الواقع، حالة الانتصار و النشوة القصوى…

عموما قصة معبرة جدا بتقنيات سردية لافتة جعلت منها عملا أدبيا مميزا.
احتراماتي الكبيرة للقاصة

 

اترك رد