قراءة في أصفاد الروح.. للقاصة والمسرحية (نهى صبحي)
بقلم – محمد جمال المغربي:
لم تكن (أصفاد الروح) بالنسبة لي مجرد مجموعة قصصية عادية! حتّى ولو أنَّها فازت بجائزة أفضل كتاب بفرع الإبداع الأدبي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2020، والتي أجمع النقادُ على حسنِ موهبةِ القاصةِ الواعدةِ(نهى صبحي) وروعةِ كتاباتها، لكن ما استوقفني بعد قراءتها عدة مرات هو أنَّ قصصها غير نمطية، تجعل القارئ يعاني بتلذذٍ مشقةَ التأمل لكي يتجاوزَ المعنى الظاهر للنص، ويبحث عن الإيحاء والمعنى الغائر في أعماق النص، والذي لا يدركه سوى قلةٍ من القراءِ المثقفين.
الظلام… القلق والتوتر… البوحُ.. عناصر متواترة في قصصها استخدمتها الكاتبة في إخراجِ مكبوتات أو أصفاد النفس البشرية عبر أحلامٍ وخيالات تدفعها رغبات داخل النفس عندما تصطدم بأبواب مؤصدة تنفجر بداخلها “على حد قولها”.
تخرج عن طريق “ذكريات مؤلمة” نشعر بها دائماً في بؤرة مظلمة أو تحديداً “الغرفة المظلمة” كما وصفتها الكاتبة والتي جعلتها مسرحاً لأحداثِ قصصها تعرض فيه مشاهد تمثيلية لأغوارِ النفسِ الخفيةِ التي تسعى للهروب من واقعٍ مؤلمٍ عبر خيالات وأساطير قديمة.
لقد اقتحمت الكاتبةُ تلك الأبوابِ المؤصدةِ عن طريق أبطال قصصها والذين اكتشفنا في نهاية بعض قصصها أنَّهم أرواح لأمواتٍ لازالوا أحياء!!
كان هدفها إلقاءَ الضوءِ على الجانبِ المظلمِ وكسر تلك الأصفاد والقيود التي فرضها المجتمع والتي كبلت النفس البشرية البائسة.
الرمزية في قصة “انبعاث”
بدأت قصتها بظهورِ البطلةِ أمام منزلٍ مهجورٍ لتفتح البابَ المغلقَ في أجواءٍ مظلمةٍ لتكتشف أنَّ جسدَها ممددٌ على الأريكة، وبجوارها جسد رجل مألوف لها يتضح بعد ذلك بأنَّه حبيبها الذي بُعِثَ بعد موته من جديد ليلتقي العاشقان مرة أخرى، في إشارة منها أنَّ الموتَ لم يفرقهما، ويبدأ سردُ ذكريات العشق القديمة، وكيف أنَّ الظروفَ قد عاندتهما، وحرمتهما من استكمالِ قصةِ عشقهما بسردها قصة رمزية أسطورية عن ملك طماع اشتهى البطلة وحرمها من حبيبها بأمواله ونفوذه، وكيف أنَّهما حاولا الهرب من جحيم هذا الملك الظالم، والذي لم يفلت من سيفه حبيبها، وعندما أدركت أنَّه فقد حياته استسلمت للموت طواعية، وكأنَّه هو النجاة والملاذ الآمن لاستكمال قصة عشقهما في هذا العالم الآخر، لينتهي عشق الجسد، ويبدأ عشق الأرواح بعد البعث الجديد، ويلتقي العاشقان كل فجر، إلا أنَّهما لم يسلما من تذوق مرارة الألم من جديد، وتنهي القصة بنهاية مفتوحة تشير لسماعِ صوتِ أقدامِ خيولٍ تقترب وتطاردهما.
استخدمت الكاتبة “الرمزية” في هذه القصة لتظهر قيدَ معاناة الأرواح المعلقة عبر الأزمان، بأن أدخلت القارئ في عالم لا حدود له، حالة من النفسية الغائمة التي يكسوها الضباب، لتخترق خفايا النفس البشرية وأسرارها المكبوتة، عن طريقِ التلميحِ ونقلِ المشاعرِ بطريقةٍ تراجيدية، واستخدمت في تعبيراتها معطيات حسية كصوتِ عزفِ المزمارِ و صوتِ أقدامِ الخيول.
القلق والتوتر في قصة “ثنائية القطب”
في هذه القصة نقلت لنا الكاتبة أجواء من التوترِ والقلقِ واللذين تعاني منهما النفس البشرية عن طريقِ تصدير مشهد تساقط الماء من الصنبور الصدئ المتآكل، والذي أزعج البطلة بشدة، فوضعت إناءً أسفل الصنبور على أمل إسكات حدة هذا الصوت المزعج، فلم تنجح فزادت عصبيتها واشتعل غضبها وتوترت أفكارها، وفجأة تهدأ نفسيتها وأنفاسها معاً، ليروقها الإيقاع الجديد لقطرات الماء وهي تسقط في الإناء بانتظام، في إشارة منها لتقلبِ مزاجِ النفسِ البشرية.
صراع العقل والقلب في قصة “ولادة متعسرة”
تقمصت الكاتبة في هذه القصة دور البطلة وكأنَّها كانت السارد العليم، ولعل الكاتبة في هذه القصة قد باحت للقارئ بقصةٍ قد تكون عايشتها حقيقة، فقد صورت لنا عجزها عن الكتابةِ بسببِ خمولٍ أصاب عقلها فجعل أفكاره خاوية، فلم تعرف من أين تبدأ؟ وفي أي موضوع تكتب؟ لم تجد طريقةً توقف بها تمرد عقلها الذي خَمُلَ تفكيره ونَضُبت أفكاره وهو قيدٌ أصاب روحها، سوى بتشغيل ماكينة القلب ليضخ الحب الذي وقعت فيه ولم تكتشفه إلا مؤخراً، حينها تلقى القلمُ الأمرَ من القلبِ لينشطَ ويكتب من جديد، وختمت القصة بعبارة راقت لي كثيراً:(حيث كانت من هنا..البداية من قلب قلبي).
المجموعة القصصية (أصفاد الروح) الصادرة عن “دار روافد للنشر والتوزيع” مكونة من ست عشرة قصة لم يسعني المجال لعرضها كاملة، قدَّمت في كلِ قصةٍ صفداً من الأصفادِ التي كبلت الروح والنفس البشرية في إطار رومانسي.. تراجيدي.. خيالي.. شائق، أفسحت فيه المجال للقارئ لمعرفةِ المرموز إليه عن طريق إشارات وتلميحات تدعوه للتأمل والبحث عن “المسكوتِ عنه” في كل نص، لتشعرنا بأجواءٍ نفسيةٍ صعبة يصعب التعبير عنها، فنصوصِ المجموعةِ القصصيةِ تحتملُ العديدَ من القراءات، وأزعمُ أنَّ الكاتبةَ أرادت وتعمَّدت هذا النسق في الكتابةِ لتبتعدَ عن النمطية والتماثل.
نجحت الكاتبة (نهى صبحي) في إخراج مارد النفس البشرية غير المرئي من غوره البعيد، وكشفت لنا عورته أملاً في مواجهة القيود المجتمعية التي كبلته والخلاص منها.