مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

علاقة الجسد والروح ودورهما في تحديد الوجود الإنساني

3

بقلم – حياة الحفيان ، تونس:

تبقى ثنائية الجسد والروح ثنائية فلسفية بامتياز تغزوها الريبة واليقين في تحديد خاصية كل منهما والبحث في مدى دورهما بغاية بلوغ ماهية الوجود الذي ما انفك يتسم بجملة من المفارقات والتي سأحاول الكشف عنها ضمن هذا الحوار الذي يجمع شخصيات(خيالية) تحت اسم أيتون و ليو

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب : توحش المصلحجية

الصحة النفسية ….الرهاب الاجتماعى …حلقة 39

– إنه لمن الإجحاف أن نجعل أجسادنا تتكبر على الروح وتشتهي ضدها
– آه يا ليو الروح، الروح، لا أدري لم دائما تفضلون الروح على الجسد،
– ذلك لأن الروح ستبقى خالدة عكس الجسد الذي سوف تنتهي صلوحيته ما إن غادرته الروح إلى أعلى
– ولكن يظل الجسد وحده تعريفا أنطولوجيا لهذا الإنسان، الكائن المختلف
– أنظري يا أيتون إن الجسد ليس سوى عرض زائل فهو معرض للحوادث كالحروق والجروح إنه معرض للموت فما ان زاره الموت الا وأصبح جثة نتنة نهرب منها، فحتى الام التي تفقد ابنها لا يمكن أن تحتفظ بجسده وذلك لشدة تعفنه بينما الروح تظل شامخة دون رائحة ودون شكل
– ان الروح يا ليو ليست سوى لغة خرساء لا تفي بالتعبير عن المعنى الحقيقي لوجود هذا الحب الذي نحمله بداخلنا بينما للجسد لغته الخاصة التي وحدها تعلن مدى حاجتي للآخر ومدى حاجة الآخر لي، فعندما تلتصق أجسادنا ببعضها البعض تولد الرغبة إنها الرغبة فى الوجود، بل إنها الرغبة في الحب إنه حب الإنسان للإنسان،
– أي لغة هذه!، فالجسد لا لغة له حتى أنه لا يترك اي بصمة داخل هذا العالم المتحرك فهو يرحل ليترك العالم متحركا لوحده وشاهدا على أن الروح هي وحدها تلك الكينونة الخالدة للإنسان،
– غير صحيح، فالجسد يترك بصمته الخاصة في كل عمل قد أنجزته يداه فالرسام مثلا تراه يهب الخلود للأجسام والوجوه التي قد ابدعها بريشته، والطبيب تراه يهب نفسه دونما ملل للإعتناء بجسد مريضه، والأب تراه دونما جزع على أهبة الإستعداد ليمنح إحدى كليتيه لإبنه المريض وذلك إيمانا منهم بأن الجسد هو آلية أولية من آليات الحياة
– لو كان الجسد هكذا ما كان ليوجد الدين الذي وحده كان قادرا على تأديب أجسادنا ولو لم يشعر البعض فينا بضيق الحياة وزوالها ما كان ليكرس نفسه في خدمة الرب ولو لم يغر بعضنا الآخر جسده ما كان ليتعدى على وصايا الله وعلى حقوقه وكرامته بل و على أبوته،
– لا أظن بأن الدين جاء ليهذب أجسادنا كما ذكرت ولكنه جاء ليعلمنا الحب، نعم ليعلمنا كيف نحب بعضنا وكيف نهب لأجسادنا سلاما غير متناه هذا السلام الذي يعالج ضمأ أجسادنا وتعفف أرواحنا التي ملت أن تكون أرواحا مطيعة ومسالمة
– على الروح أن تكون هكذا دائما مطيعة ومسالمة كما ذكرت بالضبط
– إن الجسد يا ليو مل أن يكون مرتعا للشهوات الهدامة فهو يكره أن يتم اختزاله داخل هذه البؤر الضيقة لانه هو عنوان انخراطنا داخل هذه الحياة فأن نلامس الحياة ونعيشها هو أن نلامس طقوسها بأجسادنا التي تتحرك وفق قانون الحركة وليس السكون
– إن اهتمامنا بالجسد لا يعني تعلقنا بالحياة فخذي مثلا أننا سنموت وستدفن أجسادنا ولكن ستبقى أرواحنا وحدها شامخة ولن يكون الجسد وقتها سوى ظاهرة جميلة من ظواهر الفسيفساء
– كيف للروح وحدها أن تكون قادرة على ترجمة هذا الوجود العجيب؟! ذلك أن الروح نفسها تكون في أمس الحاجة إلى هذا الجسد الذي وحده قادر على ترجمة مشاعر الغضب والكره والحب
– ولكن كيف ذلك؟
– فأن تغضب هو أن تلملم كفيك وربما ترمي بالأشياء التي بين يديك أرضا، وان تكره هو أن تنفر جسد وروح من قام بإيذائك حينها لن تكره جسده قدر كرهك لروحه الخبيثة، وان تحب فعلا هو أن تقترب من جسد من تحب فتلامس يديه ومن ثمة تعانقه بقوة الرغبة إنها الرغبة فى البقاء
– إن الرغبة في البقاء ترنو أن تكون سامية عن جسد الآخر الذي سوف لن يزيد جسدي الا تورطا لا أخلاقي، حيث يدعوه دونما شفقة إلى الوقوع في الخطيئة الكبرى
– إن المشكلة ليست في أجسادنا بل هي في عقولنا التي اتخذت أحكاما مسبقة في حق أجسادنا واعتبرتها منفذا لا أخلاقي منذ الوهلة الأولى ولم تتوغل داخل عوالمها لكشف جوانبها الوجودية
– صدقيني يا أيتون إن هذه الجوانب الوجودية التي تتحدثين عنها لا وجود لها داخل أجسادنا ذلك أن الوجود نفسه يتعالى كليا عن كل ما هو عرضي
– و من أجزم بأن جسدنا شيء عرضي وكيف يكون عرضيا وهو من منحنا قوة الانتصار على عالم الأشياء بل ومنحنا القدرة على التمييز بين بعضنا البعض فلكل منا جسده الخاص وشكله الخاص الذي يعرفه ويميزه عن الكائنات الأخرى والذي يمنحه هويته الخاصة
– إن الهوية في صراع دائم مع كل ما هو شكلي فهي لا تحتاج إلى شيء ملموس حتى تتحقق وإنما هي في حاجة وثيقة إلى هذا الشيء المتعال وهو الروح فهي وحدها بريق الهوية وعنوان الحضارة بينما الجسد يظل مجرد حركة تنتظر الموت حتى تخمد
– إن الهوية والحضارة التي تتحدث عنها هي أقوم دليل على أن الشعوب جميعا قد ابتدعت حضارات مختلفة تعرفها، فالشعوب قديما قد آمنت بقيمة الجسد ودوره داخل حضارتها، فالفراعنة مثلا قدسوا الجسد وسارعوا إلى تحنيطه والحفاظ عليه لقد آمنوا بأن الجسد دليل ورمز للوجود والخلود وبأنه وحده الشاهد على مسؤولية الانسان تجاه الكون
– ولكن كلنا نعرف أن الجسد اكسيولوجيا لا اخلاق له فهو مجرد ألة إغوائية تجرنا نحو الندم والشعور بالذنب فكيف لنا أن نقدس شيء من شأنه أن يسلبنا سعادتنا وكمالنا الخاص
– الجسد لا أخلاق له !! كيف ذلك وهو تلك المرجعية الاصلية للقيم الإنسانية، فهو من يعلمنا التفكير في التعامل معه والتعلم منه، هو من يؤدب أنفسنا وفق مرجعية أخلاقية وليست إغوائية كما ذكرت فالجسد أوجد لنفسه وسيلة مساعدة لبلوغ الأخلاق وهذه الوسيلة هي العقل الذي لم يوجد من أجل لا شيء بل وجد ليعلمنا كيف نوظف أجسادنا ونحررها من البؤر الضيقة حتى نرتقي بها الى افق اسمى وأرقى
– لا يمكن البتة الارتقاء بأجسادنا لانها لن تعرف هذا السمو مطلقا ذلك أنها وجدت لتكبل انسانيتنا بأغلال من الرغبات والشهوات ولا يمكن الوصول إلى السمو عن طريق رغبات و دوافع حيوانية
-ليس الجسد يا ليو مجرد رغبة حيوانية وإنما الجسد هو ملكة الفهم والفكر والاختيار فالله قد منحنا جسدا ومن ثم بث فيه سحر الرغبة حتى يؤسس الوجود ويجعله شاهدا على الطبيعة
-كيف للجسد أن يكون شاهدا على الطبيعة وهذه الاخيرة تأبى أن يشهدها جسد قد أنهكته رغبات حيوانية
-ان الرغبة التي تسكن أجسادنا ليست رغبة حيوانية بل إنها رغبة إنسانية في الاستمرار والصراع من أجل البقاء هذا أولا، اما ثانيا فمن خلال هذه الرغبة يولد الانسان الذي وحده يكون قادرا على التعايش مع مكونات الطبيعة ومع ظروفها
– ولكن الواقع يؤكد بأن الجسد ليس سوى ألة تتحرك لتقوم بعمل ما أو بالأحرى لتقوم بلا شيء
-كيف يمكن اعتبار الجسد مجرد ألة متحركة أو ساكنة بينما هو قوام الوجود ومنبع الحقيقة
– اي حقيقة هذه يكون الجسد منبعها! ربما الخطيئة وليس إلا،
– أولا الخطيئة ليست فعلا جسديا بقدر ما هي فعل فكري ذلك أن العقل هو من يفكر في الخطيئة وهو وحده من يقوم بها، غير أن الجسد كان وسيلة إبتدعها العقل حتى يغطي بها تفكيره العقيم، اما ثانيا فالجسد هو سيد الحقائق بامتياز
– الجسد هو سيد الحقائق! ولكن كيف ذلك؟
– حسنا حين تغادر الروح أجسادنا جراء موت مستراب كيف يمكن كشف حقيقة هذا الموت؟ وكيف يمكن الوقوف عند أسبابه؟
-عن طريق العلم طبعا
– وكيف سيكشف العلم هذه الحقائق يا ليو؟ أليس عن طريق العودة إلى الجسد، فالعلم دون جسد يقف عاجزا تماما عن معرفة سبب الوفاة إذ أن الطبيب يحتاج إلى جسد حتى يعلن انتصاره على عالم الغموض
-لا احد من شأنه أن ينتصر على عالم الغموض وخاصة ذاك الجسد أو بالأحرى تلك الجثة الهامدة
-الحقائق كلها تكمن داخل أجسادنا فكل عضو يحمل بداخله حقيقة معينة فالكل سيموت أو بالأحرى سترحل عنه روحه التي لطالما بجلها وفضلها، ليبقى الجسد وحده حاملا لمعايير الحقيقة إذ لم نقل بأن الجسد هو نفسه الحقيقة
– الحقيقة تكمن في الروح وحدها ولا أحدا سواها
– الروح تغادر أو بالأحرى تفر لانها على يقين تام بأن لا حقيقة لها تاركة الجسد وحده شاهدا على جميع التفسيرات، إذ من خلال هذا الأخير ينجح الإنسان في الظفر بالحقيقة كلها فيكشف جميع الأسباب الخفية التي أدت لذاك الموت المستراب
وبالتالي تظل هذه المفارقة التي تسكن أرواحنا و أجسادنا رهن خفايا ميتافيزيقية يعجز الوعي البشري عن بلوغها في بحثه المتواصل عن تحقيق الوجود الإنساني

بقلم : حياة الحفيان ، تونس

 

اترك رد