مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

د. نجدي عبد الستار يكتب عن العالم السردي في روايات سيد الوكيل

5

 

العالم السردي في روايات سيد الوكيل

بقلم/ د. نجدي عبد الستار

 إن هناك أعمالا أدبية تفرض على الناقد النظر لها بعين فاحصة من أجل استظهار ما فيها من جمال والوقوف على عناصر البنية السردية وبيان ما فيها من تجريب وتجديد ولهذا اخترتُ أعمالاً روائية جديرة بالدرس والتحليل لكاتب وهبه الله موهبة متوقدة ورؤية متسعة يرتكز فيها على إسهاماته النقدية التي جعلته يتطلع لإبداع مختلف، ومنحته روحًا وثابة إلى ما هو جديد في عالم الرواية، فآثر أن يتخذ مكانه من التجريب، أو لنقل – بتعبير أدق- أنه آثر أن يتخذ مكانه من الانطلاق في سباقه مع نفسه قبل الآخرين، راغبًا في الوصول إلى نهاية السباق غير مهتم بمن معه في المضمار ذاته.

سيد الوكيل صاحب إصدارات متعددة ما بين النقد والقصة القصيرة، والرواية، اخترت منها ‏الجانب الروائي، محاولاً الولوج إلى العالم السردي المحكم في ثلاث روايات، هي: (فوق الحياة قليلا ) و(شارع بسادة )، و( الحالة دايت).

فهذا العالم السردي الذي يرتكز على التجديد والتجريب لم ينتج إلا من إحساس بالسأم بدا على وجه الرواية التقليدية، وانتقل بدوره للكاتب سيد الوكيل، لتظهر أعمالاً روائية ترتاد دربًا أدبيًّا جديدًا من خلال إحياء حقب زمنية انتهت ومعها أشخاص انسحبوا من الحياة، كما يبدو في سيرة الموت والكتابة التي تحكي عن تلاشي من حوله ببطء وهو يمسك بتلابيبهم دون أن يراهم، أو نستطيع أن نقول ‏إنه موت بطعم الحياة.

فثمة رؤية سردية تتولد من نظرة فلسفية ثاقبة للحياة، دفعت الكاتب إلى العمق في السرد متجسدًا في روايات تتحدث عن حقائق، لكنها الحقائق التي جنحت إلى قوة الخيال بحيث يلتبس الأمر بين الخيال والحقيقة، مقدمة رؤية نقدية عميقة من خلال شخصيات تسرد الحياة بوجهها الحقيقي في صورة تراجم ودودة ومعبرة، مراهنة على الحقائق، وملتبسة بالسرد الذي تمنحه قوة معبرة عن المغايرات التي تكشف عن وجهتي نظر مختلفتين.

هذه الروايات رأت وجه الحياة بشكله الصحيح فعبرت عنها بنظرة شاملة تظهر فيها الأمور المتناهية الصغر، ومدى تأثيرها في كل ما حولها؛ لذلك فهي تهتم بالتفاصيل الصغيرة والمشاهد التي تقابل بعضها مرة، وتقابل المؤلف ذاته مرة أخرى، معالجة المواضيع الهامشية التي لا تشغل أحدًا، لكنها تشغل عين الناقد لتنقسم البطولة بين شخصيات متعددة معبرة عن الواقع الاجتماعي، الذي نعيشه والذي عبرت عنه الأعمال الروائية من خلال تفاصيله. والكاتب في هذه الأعمال يصنع فوضى بين الأشياء وبين الخيال والحقائق، حتى يكادوا أن يختلطوا.

قد يهمك ايضاً:

أعمال الوكيل الروائية لا تترك أمرًا إلا وترصده بحرفية كاتب تمرس النقد، فبنيتها تحمل الطابع الذي يجمع العناصر المختلفة لتتحول إلى كل واحد يؤثر الجزء فيها على الكل، لذلك نرى الهامش الذي يتحول لمتن النص ذاته مكتسبًا صلابته وداخلاً للواقع بكل قوة، هذه الرؤية نتجت عن كاتب متمرد بطبعه على الشكل التقليدي.

لقد ساد هذه الأعمال القلق الناتج عن ارتباك بين واقع معيش بكل ما فيه من أزمات متلاحقة تدفع إلى عدم الانسجام معه وتجعل المبدع يندفع إلى البحث عن الخيال الحلم الذي يعيش فيه مجبورًا بدلاً من الانكسارات المتلاحقة، فهذا الارتطام بين الواقع المعيش وبين الخيال الحلم صنع دوامات كتابية أغرقت المبدع حينًا في مشاكل لم يستطع التغلب عليها أو دفعته خارجها ليعيش التهميش الذي يخلف وجعًا لا اندمال له في مجتمعات لا ترى تميز المبدع ولا تضعه موضع التقدير فتجعله يكتب والكتابة وحدها القادرة على محو تلك الصورة.

فهذه الأعمال ترصد اضطرابا يعيشه المبدع، ويظهر مدى انتشاره على مثلث الحكاية الأدبية، كما قال في روايته فوق الحياة قليلاً: ” ليس فقط الشعراء والقصاص الذين يضطربون بين المجازي والحقيقي، القراء أيضًا يؤرقهم هذا الاختراق”.

ولم يكن الكاتب مستترا أو محتجبا، بل اختار أن يتدخل في سرده موضحًا مرة أو مفسرًا أو منظّرًا، بل مشاركًا للمتلقي على مختلف مستوياته في الاضطراب بين المجاز (الخيال) والحقيقي (الواقع)، هذه العلاقة المرتبكة والمربكة بين المجاز والخيال جعلت الشخصيات ذات تأثير واضح في البنية السردية.

ومن الملاحظ اعتماد هذه الأعمال على أشكال روائية مختلفة، أشركت المروي له، في أشكال سردية تحمل لغة التحليل، التي تميل نحو النقد، حاملة معلومات أدلى بها السارد، مرتكزا على خلفيات ثقافية متنوعة، وقراءات دفعته ليؤرخ الحالة الثقافية التي يعيشها، فالكاتب يؤرخ لحياة الأدباء برؤية ثاقبة، تحمل نظرته التهكمية في كل ما يعانيه المثقف بصفة عامة، والأدباء بصفة خاصة.

ولقد استفاد هذا العالم السردي كثيرًا مما قدمه الشكلانيون الذين هدفوا لخلق استقلالية للنقد الأدبي عن العلوم الإنسانية المختلفة، ليحاربوا كل نقد مرتبط بالتوجه الأيدولوجي، وهو الفكر ذاته الذي استفاد منه البنائيون مستعينين بخلاصات الدرس اللساني خاصة التفرقة بين اللغة والكلام؛ ليعلنوا تحليل النص الساكن المبتعد عن الوسط الذي حوله أو المؤلف الذي كتبه، وهذا الأمر ركز على فهم بنية النص مع عدم إغفال علم الدلالة البنائي.

ساهمت هذه الاتجاهات بشكل كبير في البناء السردي الذي يعتبر الطريقة التي تحكى بها القصة، ومدى المؤثرات التي تخضع لها، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها، كما ذهب حميد الحمداني في كتابه “بنية النص السردي”. هذا التصور اعتمدته في الولوج لعالم سيد الوكيل السردي؛ لسبر غوره وفك شفراته المتداخلة، مع الاستعانة بالمناهج التي تمنح الباحث قدرة أكثر على معرفة ما يحتويه، موضحًا أسرار الإبداع فيه.

فنحن أمام أعمال روائية ترتاد دروبا جديدة في تشييد العالم السردي؛ هذا الأمر دفعني للاستعانة بالأساس بالمنهج البنيوي في تحليل البنى السردية، ذهابًا إلى المنهج السيميائي لكشف الدلالات المكتنفة من خلال اللغة المستخدمة أو الأسماء المطروحة، والتي تحمل مقصدية أحيانًا، واعتباطية أحيانًا أخرى، حيث ترتكز الأعمال على السيرة مما جعلنا نصنفها بالرواية السيرية، التي رصدت الذاتية من خلال ما يمس الوكيل ذاته والغيرية مع الآخر. ولم تغب بعض إجراءات المنهج التفكيكي الذي برع الكاتب نفسه في استخدامه إبداعيًّا من خلال المفارقات الساخرة والمقابلات في الحدث الواحد.

وكان لزاما أن نتوقف قليلا أمام الحركات النقدية التي شغلت بالسرد، فقمت برصدها دون التوغل فيها من أجل المساعدة على فهم المصطلحات الأدبية، وتحليل الأعمال الروائية لسيد الوكيل، الأمر الذي مهد للوصول إلى ما أصبو إليه وهو كشف نقاط الإبداع الكامنة في أعمال الوكيل الروائية.

 

اترك رد