مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

د. عبد المنعم العدوي يكتب: مجاهد الجندي.. ذاكرة الأزهر البشرية قبل الرقمية

4

مجاهد الجندي.. ذاكرة الأزهر البشرية قبل الرقمية

بقلم أ.د/ عبد المنعم عبد الرحمن العدوي

قد يهمك ايضاً:

أستاذ مشارك بجامعة أم القرى ورئيس لجنة المحتوى بمشروع ذاكرة الأزهر

منذ بدء الدراسات الأكاديمية في الجامعات المصرية ومنها تخصص التاريخ كان الاقتصار على التخصص في عصر محدد أو في دراسة إقليم معين الطابع الغالب علي الجميع بحكم التخصص بين قديم وإسلامي وحديث، ومنهم المشرقي والمغربي والأندلسي، إلا أن أستاذنا الراحل الدكتور مجاهد الجندي قد سلك طريقًا مغايرًا تمامًا؛ حيث تعدت كتاباته العصر الذي اختير له بحكم التخصص الأكاديمي وهو التاريخ الإسلامي لينطلق نحو الكتابة الموسوعية التي لا تعترف بحدود التخصص والفترات الزمنية؛ متخّذًا من الكتابة التاريخية وسيلة لخدمة قضية جليلة تمثلت في العمل على التنقيب في تاريخ الأزهر الشريف، وكشف مآثر علمائه، وإحياء تراثه، فتنوعت كتاباته لتشمل تاريخ الأزهر منذ إنشائه في العصر الفاطمي وحتى الوقت الحاضر مرورًا بالفترة العثمانية والحديثة بل تجاوزها لاستشراف المستقبل بما أطلقه من دعوات للحفاظ علي التراث الأزهري وإنقاذه من الضياع والتلف. وقد اقتضى هذا المنهج المختلف مجموعة من الأدوات والمهارات البحثية التي حرص أستاذنا الراحل على اكتسابها وتنميتها، وفي مقدمتها كيفية التعامل مع المصادر الأصيلة من المخطوطات والوثائق، وإذا كان النوع الأول مطروقًا للمتخصصين في التاريخ الإسلامي ممن ارتضوا البقاء في كهف التخصص لا يغادرونه إلا علي مضض فقد كان النوع الثاني مجالًا للتميز والإبداع حيث سعى أستاذنا الدكتور مجاهد الجندي إلى الحصول علي كل ما يمكنه من وثائق خاصة بالأزهر ومؤسساته بكل الوسائل، ويحفظ له التاريخ كيف أنقذ مجموعة كبيرة من وثائق المعهد الأحمدي بطنطا كانت في طريقها إلي مصانع الورق، كما وثق رحمه الله في بعض كتاباته كيف تمكن إنقاذ مجموعة أخرى من الوثائق التي كانت محفوظة من وثائق تكية أبو الذهب ولولاه لضاعت كغيرها مما فقد من تراث الأزهر. وكان لهذا الجهد الكبير في الجمع أثره في التنوع والثراء في تراث شيخنا المنشور عن الأزهر ومؤسساته مما لم يسبقه أحد إليه، وتقدم مجلة الأزهر عددًا كبيرًا من المقالات والدراسات الوثائقية التي اعتمد فيها على أرشيفه الخاص فأضاف لتاريخ الأزهر الكثير والكثير من الموضوعات مما لم يسبقه أحد إليه؛ فمن ذلك ما كتبه عن مشيخة الجامع الأحمدي ومشيخة الإسكندرية ومدرسة القضاء الشرعي وغيرها من الموضوعات التاريخية الوثائقية التي بدأت الأنظار تتجه اليها في الفترة الأخيرة، إلا أنه يحسب له أنه سبق الباحثين المتخصصين بسنوات طوال. هذا فضلًا عن مشاركاته القيمة في المحافل العلمية المحلية والدولية مصرًا على رفع مكانة الأزهر الشريف وإعلاء قيمه، وإبراز جهود علمائه ومآثرهم. ومن طريف ما يذكر عن حرصه على توثيق تاريخ الأزهر والمعاهد الكبرى عندما دعي رحمه الله لمناقشة علمية في فرع جامعة الأزهر بأسيوط إلا أن روح الباحث المثابر غلبت عليه فأصر قبل أن يتوجه للمناقشة أن يقوم بزيارة لمعهد أسيوط ليوثق تاريخه وعمارته، وحرص على تدوين كل كبيرة وصغيرة رآها في أوراق كانت معه، ليقدم لمرافقيه درسًا عمليًا في الحرص على طلب العلم، واستمرارية البحث العلمي وعدم توقف المؤرخ عن الكتابة مهما بلغت درجته العلمية، ومما يذكر عن تميز مؤرخنا الجليل وتنوع مواهبه ولعه بالخط العربي وبراعته الفائقة فيه، وحرصه علي كتابة بعض اللوحات الإعلانية رغم توفر وسائل التقنية الحديثة؛ فكانت لوحاته شهادة استحقاق مبكرة لمن نال هذا الشرف، وأذكر هنا أثناء قيامنا بتوثيق المعهد الأحمدي بطنطا ضمن مشروع ذاكرة الأزهر الشريف وفي أثناء تجولي في المعهد توقفت أمام إحدى الخرائط المتقنة التي لا تزال تحتفظ برونقها رغم مرور قرابة الستين عاما على رسمها فاقتربت منها فوجدت أنها من عمل الطالب مجاهد توفيق الجندي، وكذلك عضويته في لجنة الجغرافيا بالمعهد ومشاركته في عمل أطلس جغرافي متميز لا يزال ضمن مقتنيات المعهد حتى وقتنا. لقد كان مؤرخنا مقصد الباحثين المصريين والأجانب ممن يرغبون في الوقوف على تاريخ الأزهر، وكنت شاهدًا على ما قدم لهم من نصائح جمة كان لها أثرها في إنجاز أبحاثهم، وتصحيح كثير من أفكارهم عن الأزهر ومناهجه واتجاهات علمائه، فكان رحمه الله الذاكرة البشرية العلمية المتميزة التي سبقت مشروعنا ذاكرة الأزهر الرقمية، والأمل معقود على طلابه ومحبيه لإخراج خفايا هذه الذاكرة إلى جمهور المثقفين والباحثين حتى تتحقق الاستفادة المثلى منها، والتي حالت بعض العقبات التي وضعت أمام أستاذنا الراحل لإخراجها على النحو الذي كان يرجوه، وما سعى إليه بكل قواه في مسيرته العلمية الحافلة بالعطاء، والتي كان يفخر فيها دائمًا بأنه مؤرخ الأزهر، وهو الوصف الذي لا ينطبق على غيره من أساتذة جيله بارك الله فيهم جميعًا.

اترك رد