مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

 دور عتبات النص فى تحليل الخطاب السردى.. قراءتان سيميائيتان

18

 دور عتبات النص فى تحليل الخطاب السردى

قراءتان سيميائيتان

د. عزة شبل محمد  ـــ  د. نجدى عبد الستار

د. عزة شبل محمد
د. نجدي عبد الستار

تتضافر سيميائية الغلاف مع دلالات عناوين المجموعة القصصية (جوهرة) للأستاذ الدكتور حسن البندارى فى تشكيل قضية مجتمعية مهمة، ألا وهى قضية (التفكك الأسرى). يحمل الغلاف سمات المدرسة التأثيرية المنفتحة الدلالة التأويلية، حيث ينتقل المتلقى من العلامة المكتوبة المقروءة إلى العلامة المصورة المرئية، فتصبح الصورة خطابًا مرئيًا لا يتابعه المتلقى بالقراءة المتعاقبة مثل ما يحدث فى عمليات تلقى الخطاب المكتوب، وإنما تتشكل لدى المتلقى صورة مرئية بشكل كلىّ.

لوحة الغلاف للفنانة المبدعة زينب السعودى، وقد بدت قارئة متميزة للمجموعة القصصية، فقد عبَّر الغلاف عن قضية التفكك الأسرى، وسلطة الزوج، وقهر الزوجة، وعلاقة الأم بالأبناء، وعلاقة الأب بالأبناء، ببراعة شديدة من خلال الأشكال الموجودة فى الصورة، ولغة الجسد للشخصيات، وأحجام الصور، ودرجات القرب والبعد أو الاتصال والانفصال، وتنوع الألوان المستخدمة.

تنقسم الصورة داخل الغلاف إلى شكلين منفصلين تمامًا. الشكل الأول على يمين الغلاف، وفى خلف الصورة، وهو كتلة متجمعة، حيث توجد امرأة، وأمامها أربعة من الأبناء الصغار. ووجود الأبناء معها يعنى أنها ليست زوجة فقط، وإنما هى أم، والتصاق الأبناء بها، وببعضهم البعض يدل على العلاقة الحميمية التى تربط الأم بأبنائها، تلك العلاقة أكد عليها المبدع من خلال الوصف داخل القصة. المرأة تبدو جميلة، وصغيرة  فى العمر، ملامحها دقيقة، ولم يظهر من الجسم سوى الرأس فقط المنشغل بهموم الأسرة، لكن حركة العينين إلى أسفل تمامًا؛ مما يعنى الحزن والانكسار، وإحدى العينين تحيط بها هالة سوداء، وكأنها آثار عنف أو أذى لحق بها، واللون المسيطر على وجه المرأة هو اللون الأبيض الذى يعكس الصفاء والنقاء التى وصفها د حسن البندارى فى قصة (يوم). أما الألوان المسيطرة على صورة الأبناء فهى مزيج من اللون الأخضر وهو رمز النماء، والأزرق وهو رمز الماء والحياة أيضًا، أما اللون الأبيض فهو انعكاس لصورة الأم على الأبناء، كما يشير أيضًا إلى البراءة وصفاء النفس.

وقد كانت حركة رأس الأبناء أيضًا إلى أسفل مما يؤكد دلالة الانكسار، ووضعية اليدين ملتصقة بالجسد، أو مستترة تحت الملابس غير موجودة، ووقوفهم على صف واحد ، إنما يدل على الخوف، والضعف، وتساوى انعدام القدرة على فعل أى شىء تجاه تلك المشكلة. وحركة العينين أيضًا تميل إلى أسفل، مع انفتاح الرؤية، معبرةً عن حالة القلق والتوتر فى علاقة الأب بأسرته. وإحدى العينين أيضًا مع اليد الواحدة الظاهرة فى الصورة لأحد الأبناء يكتسى كلاهما باللون الأحمر الدال على إلحاق الأذى بهما.

ويحمل أحد الأبناء فوق رأسه شكلاً دائريًّا غير محدد الملامح، لكنه متعدد ومتداخل الألوان (الأحمر، والأصفر، والأزرق، بدرجاتها المختلفة)، فيرمز إلى الحياة المجهولة التى سوف يحياها هؤلاء الصغار، ويشير تعدد الألوان إلى تعدد الأطوار والمراحل التى سوف يمرون بها فى مستقبلهم، أما وضعية هذا الشكل فوق رأس الطفل، فجاء ثقيل الحمل عليه، وانعكس ذلك فى حركة الرأس التى بدت منحنية مضغوطة بسبب هذا الحمل البغيض الملقى عليها.

وخلف صورة الأم وأبنائها شكل آخر لوجه امرأة، مصغرٌ غير واضح المعالم، يلازمه أيضًا الألوان نفسها الأبيض والأخضر والأزرق، فيؤكد تكرار الصورة دلالة وجود هذه الظاهرة المجتمعية ، فهى ليست حالة فردية خاصة بامرأة ما، ولكنها صورة متكررة فى أكثر من بيت داخل المجتمع.

أما بالنسبة للحجم، فقد كانت صورة الأم والأبناء معًا أصغر حجمًا من صورة الأب، وربما يكون فى ذلك دلالة على صغر حجم سلطتهم، مقارنة بحجم سلطة الأب، ويدعم ذلك وضعية الصورتين. فصورة الأب فى الصدارة إلى الأمام، أما صورة الأم والأبناء ففى الخلف.

قد يهمك ايضاً:

مجلس صيانة الدستور في إيران : النائب الأول للرئيس سيتولى…

تنفيذ أعمال صيانة ونظافة 1834 عمارة بالإسكان الاجتماعي…

وهناك شكل آخر فى الغلاف، يعكس صورة الأب. يتكون الشكل من رأس كبير يأخذ هيئة رأس الأسد باستدارة الوجه، والأنف، والذقن، والشعر، وكبر حجمها. فوجود رأس الأسد بديلاً عن رأس الأب يرمز إلى القوة والسلطة. ويصاحب وجود السلطة والقوة دلالة السعادة التى يأمل تحققها بالزواج الناتجة عن وضعية انفراج الشفتين، أما ظهور اللسان باللون الأحمر فهو انعكاس لما تحقق من أذى لبقية أفراد الأسرة بقرار زواج الأب من امرأة أخرى.

وقد كان اختفاء اليدين من صورة الجسم معادلاً صُوَرِيًّا لما جاء فى المجموعة القصصية من إخفاء فعل الزواج بالمرأة الأخرى، فاليد رمز للفعل، وليس هناك حاجة إلى وجود الفعل فى الصورة؛ لأن فعل الزواج بامرأة أخرى لم يتحقق فى القصص، وإنما ترك الكاتب القضية مطروحة للنقاش أمام القارئ، عبر النهاية المفتوحة، فلم يظهر فى القصة سوى الكلام، أو القول ، أوالقرار المتخذ، دون الإشارة إلى تحققه.

وجاءت حركة العينين إلى الأمام فرحة تؤكد الثقة بالنفس والسعادة المرتقبة فى الحياة الجديدة (مع زوجة أخرى)، ويؤكد بعد الزوج عن أسرته وجود مسافة فارغة بين الشكلين.

أما الألوان المسيطرة على صورة الأب، بخلاف اللون الأحمر فى اللسان الذى يعد رمزًا لإلحاق الأذى بالأسرة، فالصورة تكتسى باللون الأبيض المائل إلى الرصاصى الضبابى الذى يتنافى مع معنى الصفاء والنقاء المصاحب لصورة الأم، وهو وضع غائم غير واضح، لكن بداية هذا الطريق الموحل قد ظهرت معالمها مع لون القدمين الأسود، الذى بدأ ينسحب أيضًا على الساقين، وكأنه قد انغرس فى الوحل أما القدم المرفوعة عن الأرض فى مواجهة الجمهور التى تدل دلالة واضحة على التكبر وتضخم الذات، فلا أحد يعنيه، وهو ما أكَّده الخطاب القصصى المكتوب، فلا أحد يقدر على منعه من الزواج بامرأة أخرى.

قراءة أخرى للصورة البصرية:

إن هذا الشكل يمثل صورة امرأة بملامح جسدها الواضحة، صدرها، ونحافة الخصر، وملابسها القصيرة، وساقيها، وانحناءات الجسد، وطريقة الوقفة.

تحمل هذه المرأة بين يديها وفوق رأسها الدقيق حملاً ثقيلاً غير محدد الملامح، لكنه أشبه بخريطة الوطن. فالمرأة رمز للوطن تحمل عبأه وهمومه، ولا يقتصر دورها على محيط الأسرة فقط، وإنما يتسع دورها ليشمل الوطن كله، فيقدم بذلك الغلاف تناصًا مع ذلك الرمز العالمى المتكرر فى كافة الأعمال الإبداعية التى تربط المرأة بالوطن.

وقد كان اللون الأبيض هو اللون الغالب على بناء الصورة، وهو ما يدعم البنية الكلامية داخل المجموعة القصصية التى تصف المرأة دومًا بالنقاء والصفاء. أما اللون الأسود المتدرج من شدة السواد فى كلتا القدمين إلى الساقين، فإنما يرمز إلى الطريق الطويل والشاق ورحلة الحياة التى تمر بها الزوجة، وتحملها للأعباء. فقد أظهرت الصورة القدمين بملامح واضحة، تبدو الأصابع الخمسة ظاهرة فى صورة القدم، دون أن ترتدى حذاءً، وفى ذلك دلالة واضحة على كم المعاناة التى تمر بها.

وبالنسبة للحجم، فقد حاول الغلاف تبئير صورة المرأة، واتساع دورها ليس فقط  بوصفه منحصرًا فى كونها زوجة داخل الأسرة، وإنما بإلقاء الضوء على دورها الإنسانى فى بناء المجتمع، وتحملها أعبائه. ومن هنا، فإن ذلك الشىء الهلامى الذى تحمله فوق رأسها، بحجمه الكبير فى تضافره مع انحناءات الخطوط المشيرة إلى خريطة الوطن، إنما يرمز إلى العبء الذى تحمله المرأة دون الرجل.

وفى لمحة تعبيرية دقيقة من الفنانة التشكيلية المبدعة صاحبة الغلاف الأستاذة زينب السعودى، فإن وقفة هذه المرأة فى الصورة، ورفع قدمها لأعلى أمام المتلقى، كان أيضًا متعدد الدلالات. فقد يكون فعلاً إنجازيًّا صوريًّا يعبر عن الرغبة فى شعور الآخرين بكم المعاناة التى تمر بها المرأة فى الحياة عبر استخدام هذا اللون الأسود بدلالاته الرمزية القاتمة. ومن ناحية أخرى، فإنه يتناغم مع انحناءات الجسد فى توصيل رسالة إلى الآخر، وهى أنه على الرغم من ذلك العبأ الشديد الذى تحمله فوق رأسها، والطريق الطويل الشاق الذى تمر بها قدماها، إلا أنها واثقة من نفسها، وتعرف قيمة ذاتها، حتى وإن بدت منفردة، وتركها الزوج، فلم تكن هذه الوقفة التى تضع فيها قدمها فى وجه الجميع إلا نتاج ثقتها فى نفسها، ووفقًا ايضصا لما ورد فى الخطاب السردى فى قصة (يوم) داخل المجموعة القصصية.

أما عن دلالة غياب صورة الرجل أو الزوج، الذى يسعى إلى هدم الأسرة، عن المشهد البصرى فى هذه القراءة، فإنما يدعم ما جاء داخل المجموعة من رغبته فى الانفصال عن الأسرة، ومن ثم، فقد كان استبعاده من الصورة المرئية موازيًا لانعدام دوره داخل الأسرة، وداخل المجتمع أيضًا، بل إنه قد يُتضمن فى الأعباء التى تحملها الزوجة فوق رأسها، عبر ذلك الشىء الهلامى غير محدد الملامح.

وبذلك فقد قدَّم الغلاف بدلالاته المتعددة والمتشابكة دورًا رئيسًا فى التعبير عن المضمون القضوى للمجموعة القصصية، وهو إبراز دور المرأة فى تحمل الأعباء، ومسئولية الرجل فى الحفاظ على الكيان الأسرى، كما جاءت لوحة الغلاف وسيلة ربط نصية بين البنية السردية المقروءة لقصص المجموعة، وبنية الصورة المرئية التى يمثلها الغلاف.

لقد تمتعت هذه المجموعة القصصية الرائعة بلغة أدبية مميزة، وسر تميزِها أنه يكمن وراءها فكر نقدى عميق، بمشكلات إنسانية حقيقية داخل المجتمع المصرى، وقد لامست جوهر خصوصية هذا المجتمع وروحه الشرقية فى النظر إلى (مفهوم الأسرة)، بالإضافة إلى سمة أخرى مميزة، وهى البراعة الشديدة فى تكثيف الفكرة، وتوظيف عناصر القصة فى بناء هذا التكثيف، وتعدد المستويات اللغوية، وشعرية اللغة المستخدمة، فضلاً عن التناغم والانسجام بين قصص المجموعة. كل تلك الوسائل البنائية جعلت من تلك المجموعة القصصية عملا أدبيًّا فريدًا من نوعه، متميزًا من حيث اللغة، والفكر، والإبداع. وقد مثَّل الغلاف جزءًا بنائيًّا رئيسًا فى بناء تلك الدلالات.

اترك رد