مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

ثقافة عصر التوك توك

14

بقلم – محمد محمد مستجاب:

تعتبر جميع وسائل النقل من أحد أهم متطلبات الحياة وعامل من عوامل تطور الحضارة البشرية. بل أن كثير من وسائل النقل واكب مراحل مهمة من التاريخ البشري، وساهم في رسم منعطفات جديدة قادت الإنسان نحو العديد من الإنجازات المهمة في تاريخه.

لكنني، لم أجد خلال تجولي خلال العصور السابقة لتاريخ النقل الإنساني، وسيلة نقل ومواصلات استطاعت أن تفعل ما فعله “التوك توك” في ذلك الزمان البسيط، فبينما كان الجمل وقوافله تخترق الصحراء، والجبال تصعدها البغال والحمير، والغابات تخترقها الخيول، والمدن تتصل بالقطارات والأتوبيسات والسيارات، والزحف على الجليد بالزلاجات، وباطن الأرض يخترقه مترو الإنفاق، والدول والبحار تعبرها السفن والطائرات، والفضاء الخارجي والصعود للقمر بالصاروخ والمكوك الفضائي، إلا أن التوك توك لم يأتي كوسيلة مواصلات، بل رمز لعصر كامل بدأ كل شيء فيه ينسحق وكل شيء فيه يتضأل.

وإذا كان الميكروباص هو الابن الشرعي لأتوبيس النقل العام – ليس في مصر فقط- بل في كثير من البلدان، حيث بدأ ظهوره في مصر مع بداية الثمانينيات.

لكن “التوك توك” جاء كابن غير شرعي لكل هؤلاء، بداية من القدمين للسير وصولا للصاروخ محلقا في الفضاء، فلا تستطيع أن تنسب التوك توك إلى أب شرعي سواء من الحيوانات أو من الآلات، فقد جاء مميز في كل شيء، في دخوله لأماكن لن تستطيع أن تخترقها الأتوبيسات والسيارات، وبعيدًا عن تاريخه السري الممتليء باللئم والخبث في حياتنا، لكنه جاء ومعه ثقافته بل فرضها كوسيلة على من يقوده، وربما العكس، فالتوك توك لم يكن يريد أن يشاركه أحد، وبالتالي كما مصّ الهدوء من حياتنا، مصّ أيضًا العمال من مهن كثيرة سواء في النجارة أو الحدادة أو النقاشة. وبالطبع بسبب ربحة السريع، وعدم تكلفته، كان مصدر جذب لهؤلاء العمال البسطاء.

 

في البداية لم يعثر أحد على سبب تسميته ب” التوك توك”، لكن الأكيد أن صوت تلك التكتكة التي يحدثها هو ما جعله يحمل هذا الاسم، فالتوكتوك أو الباجاج أو الستوتة أو تكتك نسبة إلى تسمية عراقية، هو الركشة بالهندية، ويبدو أن ظهوره المبكر في بلاد آسيا، هو السبب في انتشاره في بلاد عربية كمصر والعراق والسودان.

و” الريكاشة” اليابانية القديمة، هي أقرب تصور للتوك توك، وربما يكون هو التطور الطبيعي لها، رغم أن الريكاشة اليابانية مخصصة بأن يجرها شخص على قدميه.

ولا أعتقد أن اليابان التي قدمت للعالم الكثير من الاختراعات خاصة في العصر الحديث، هي السبب في انتشاره، لكن دولة مثل الهند بتعدادها العظيم، هي من جعله يتكاثر أكثر من سكان الأرض، وأكثر من أي مركبة سارت على سطح الكوكب ايضًا.

فالتوك توك بحجمه الصغير والمميز- لن تجد له شبيه في تاريخ المواصلات بالعالم – ذو الثلاثة عجلات، هو في الاساس من المفترض أن يحمل راكبين بالمقعد الخلفي بالإضافة للشخص الذي يقوده، لكن بقدره قادر استطاع التوك توك أن يحمل أكثر من سبعة أشخاص، وسنجد كثير من الصور له في كثير من البلدان يحمل بضائع وحيوانات وأجهزة وأثاثات، وكأنه نملة صغيرة تحمل أكثر من وزنها بأضعاف.

ومن أول الشركات المنتجة للتوكتوك هي شركة “باجاج” الهندية، وهي نفس الشركة المنتجة للفيسبا التي انتشر استخدامها بصورة كبيرة في الثمانينيات. ثم بدأت شركات أخرى بتصنيع التوكتوك بالاخص في تايلاند والصين.
قدرات النملة وطموح الأفيال.

بدأ ظهور التوكتوك في البلاد العربية بكثرة مع دخول الألفية الثانية، على الرغم من إنتشار التوكتوك في الهند في أوائل الستينيات. ورغم قوته الضعيفه جدًا، لكنه يذكرك بنملة تستطيع في صبر أن تبني جبلا.

وميكانيكا يعتمد التوكتوك عادة علي محرك بنزين ذو سلندر واحد سعة 400 سي سي. وبه صندوق تروس بسيط شبيه للموجود بالدراجة النارية  بالإضافة إلى إنه يحتوي على غيار العكسي ليسمح للتوكتوك بالرجوع للخلف. ونظام التوجيه في التوكتوك هو بدائي مثل الدراجات يعتمد على “جادون”.

قد يهمك ايضاً:

أوقفوا التنمر على خلق الله

المرأة والمسئولية وضغط العمل

عجز حكومي وفقر حضاري

كثير من الدول تعتبر التوكتوك مركبة غير مطابقة للمواصفات الأمنية، وذلك لعدم إتزانه وعدم صلابة هيكله الخارجي، وعدم وجود أبواب أو أحزمة أمان يعرض الركاب للخطر في حالة الحوادث. وبالتالي ترفض كثير من الأنظمة المرورية صرف لوحات ترخيص للتوكتوك لاعتقادها في عدم صلاحيته للسير في طرق المدينة، فمثلا في السودان نجد أن المرور يمنع التوك توك من عبور الكباري، قاصرين سيره فقط على الشوارع والطرقات الجانبية والداخلية فقط. ولا تكف السلطات في كثير من الدول من مطاردته أو محاولة تقنينه.

والعشوائية التي انتشرت في كثير من البلدان نظرًا للانفجار السكاني، كانت هي السبب في انتشاره، ففي البداية كان يعمل حول تلك المناطق أو داخل شوارعها التي أقيمت دون علم أجهزة تلك الدول، بل أنني أتذكر فرحة أبناء المناطق الحضارية عندما يذهبون لتلك المناطق لمشاهدة التوك توك أو ركوبه، وكأنه شيء لم يحدث من قبل، وهذا هو الدهاء الذي يسير به التوك توك.

انتشار التوك توك وثقافته

ينتشر التوكتوك عامة في البلاد النامية ذات الكثافة السكانية العالية، ولذلك لانخفاض تكلفته وقدرته على السير في الشوارع والطرقات الضيقة وينتشر بصورة ملحوظة في البلاد التالية: بنجلاديش، والهند، وإندونسيا، وباكستان، والفلبين، والصين، وكوبا والسلفادور وبيرو، وإثيوبيا ونيجيريا، وفي الدول العربية نجده في العراق ومصر والسودان.
وقد ظهر في البلاد العربية نتيجة انتشار المناطق العشوائية التي ضربت كثير من البلاد نتيجة الفقر وزحف الريف إلى المدن، وكانت السبب في نجاح التوك توك وانتشاره.

فالتوك توك لدية ثقافة نشرها مع تجواله في تلك المدن، نجدها في أغنيات عالية وكلمات هابطة، ومطربين لم يجدوا إلا مجاله وتربته للانتشار، وبالتالي صاحبته مشكلات وجرائم لم نكن نسمع عنها، مثل جرائم الخطف والقتل والاغتصاب.

وربما لم أر مركبة خلال تاريخ المواصلات في العالم قد كرهه العالم مثل التوك توك، والذي يدل على تخلف الدول التي تستخدمه، ولا أعرف السر في ارتباطه بالتخلف.

فلا يحمل التوك توك أي نواحي إنسانية أو أي أمن لراكبه وقائده، فنجد أن معظم أو غالبية قائديه من مدمني المخدرات والبلطجية.

لكن كارثة الكوارث التي أضافها التوك توك إنه صار رمز للتخلف وبالتالي تحاول الكثير من الدول التخلص منه، كإبن غير شرعي بإلقاءه أو تبديله بمركبة أخري تكون أدمية وعصرية وحضارية أيَضًا.

وإذا أضفت الشعارات التي توضع على جسده، معبرًا عما وصل إليه التفكير، خاصة ناحية الرزق والحسد، وبالتالي كان جسد التوك توك مغاير لكل الأمثال الشعبية والحكم التراثية التي تعارفنا عليها، بل جعل الإنانية هي المبدأ الصحيح، وجعل الفجاجة هي الأسلوب الأمثل للحديث، إنه مركبة لا تتناسب مع قيم حضارية لدول عظيمة تاريخيا مثل العراق ومصر والسودان.

أن الخجل الذي ظهر به التوك توك- خاصة لدينا في مصر – لم يطول، بل كان التمهيد المبكر لغزوه كل الأماكن وأي شارع، حتى ولو كان أكثر الشوارع الحضارية، سوف تجد التوك توك يمد قديمه مخترقها ذات مرة.
كما أن ظاهرة قيادة الأطفال للتوك توك، جعلته يخترق الكثير من الحواجز والأفكار السيئة التي يمكن أن تأتي لعقولنا.

إن التوك توك للاسف يعد الآن من أبرز وسائل النقل في بعض الدول العربية، وثقافة التوك توك لن يعوقها هذا الخجل أو قوانين المرور، وباالتالي سوف يبحث التوك توك عن وسيلة يغزو بها باقي الدول العربية، لو لم نستطيع استصاله هو وثقافته.

سيظل التوك توك ابن غير شريعي ولد دون شهادة ميلاد أو مرور، وتستطيع المجتمعات التي تجاهد نحو التطور أن تلفظه أو تطوره لتثبت تقدمها وقدراتها الحضارية.

 

 

 

التعليقات مغلقة.