مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

المركز القومي للترجمة يعيد طبع “مناهج التحليل النقدي للخطاب” لنفاذه من الأسواق

1

التحليل النقدي للخطاب

من السياق الغربي إلى السياق العربي

بقلم الدكتور/ عماد عبد اللطيف

 منذ تسعينيات القرن العشرين ظهر التحليل النقدي للخطاب Critical Discourse Analysis كمدرسة في تحليل الخطاب في الأوساط الأكاديمية في أوروبا الغربية. ومع نهاية القرن كان يمثل أحد أكثر توجهات تحليل الخطاب استقطابا للباحثين1.

يحدد فان ديك – أحد أبرز مؤسسي هذه المدرسة- موضوع التحليل النقدي للخطاب بأنه “دراسة الكيفية التي يقوم بها النص والكلام بتقنين وإنتاج ومقاومة اعتداءات السلطة الاجتماعية وهيمنتها ولا مساواتها”. وأن المحلل الناقد للخطاب يسعى إلى فهم اللامساواة الاجتماعية والكشف عنها تمهيدا لمقاومتها. ومن ثمَّ فإن التحليل النقدي للخطاب له توجه عام هدفه توعية البشر بالتأثيرات المتبادلة بين اللغة والبنى الاجتماعية، تلك التأثيرات التي لا يعيها البشر غالبا2.

أما نورمان فيركلف – المؤسس الأبرز للمدرسة- فيقدم تفصيلاً أكبر لأهداف التحليل النقدي للخطاب. ففي مقدمة كتابه التأسيسي “اللغة والسلطة” يحدد أهداف الكتاب في هدفين؛ الأول هو المساعدة في التصدي للتجاهل الشائع لأهمية اللغة في إنتاج علاقات السلطة وترسيخها، أما الثاني فهو المساعدة في زيادة الوعي بالكيفية التي تسهم بها اللغة في إنجاز هيمنة بعض البشر على بعض. وهو ما يمكِّن من مساعدة البشر على إدراك المدى الذي تعتمد فيه لغتهم الخاصة على المسلمات الشائعة، والطرق التي يمكن لعلاقات السلطة أن تشكِّل بواسطتها هذه المسلمات الشائعة. ويرى فيركلوف أن الوعي الذي يحققه الاطلاع على نماذج من استخدام اللغة أداةً للقهر والهيمنة يمكن أن يكون حافزا على المقاومة والتغيير. وهو، وإن كان يثق في قدرة البشر على الخلاص من الهيمنة التي يمارسها بشر آخرون، فإنه يربط هذه القدرة بتطور وعي نقدي بهذه الهيمنة وأوضاعها. ويتحقق الوعي عن طريق التحليل النقدي للظواهر اللغوية والسيميوطيقية للخطاب؛ مثل المفردات والنحو والعلاقات النصية، واللون والصورة..إلخ. ومن ثمَّ، يندرج المحللون الناقدون للخطاب في تحليلات تفصيلية لهذه العناصر، ويقومون بشكل مستمر بتأويلات تربطها بعلاقات السلطة في المجتمع3.

تتعدد المقاربات التي تعمل في إطار التحليل النقدي للخطاب، بحسب ما تكشف في فصول هذا الكتاب؛ لكنها تشترك في المنطلق اللغوي لتحليلاتها. وذلك استنادا إلى أن اللغة مجلىً للسلطة. وربما كان هذا الفهم العام للعلاقة بين السلطة والخطاب جزءًا من المشترك العام بين ممارسي التحليل النقدي للخطاب. ولا يُعد الاختلاف في الأسس النظرية التباين الوحيد بين هذه المقاربات، إذ ثمة اختلاف في إجراءات التحليل، وآخر في الظواهر المدروسة. فعلى الرغم من أن هذه المقاربات تتفق في اتخاذ اللغة والظواهر السيميوطيقية موضوعا لدراستها، فإنها تختلف – إلى حد كبير- في تحديدها للظواهر التي يراها كل توجه جديرة بالدرس. وهو ما قد يرجع إلى الاختلاف في التقييم النسبي لقدرة كل ظاهرة على الإفصاح والكشف عن السلطة التي يمارسها منتج اللغة ويبتغيها.

ربما كان مشروع التحليل النقدي للخطاب هو الأهم على الساحة الأكاديمية من بين الحقول المعرفية المعنية بدراسة العلاقة بين الخطاب والسلطة. وربما يرجع ذلك -إضافة إلى قوة الجذب التي ينطوي عليها نبل الغاية التي يعلن أنها مقصده، وهي تداعب حلما رومانسيا لدى كثير من البشر يتمثل في تقوية المستضعفين وإضعاف المتجبرين- إلى قدرته على تقديم نفسه بوصفه ممارسة أكاديمية، تُمكِّن الباحثين، الذين ينتمون أساسا إلى حقل الدراسات اللغوية، من مناوشة الواقع بمشكلاته وتحدياته. وربما تكمن إحدى نقاط الضعف الحقيقية في التحليل النقدي للخطاب بوصفه ممارسةً مقاومةً للخطاب في إمكانية تحوله إلى مجرد ممارسة أكاديمية، أي عزله بشكل أو آخر عن الواقع الاجتماعي.

يُعزِّز هذا التخوف أمران؛ أولهما: أن التوجه التربوي المواز للتحليل النقدي للخطاب لم يتطور بنفس الوتيرة التي تطورت بها إجراءات التحليل التي يستخدمها، والأسس النظرية التي يتأسس عليها. وثانيهما: أن التحليل النقدي للخطاب ربما لم يتجاوز طموحه عتبة الوعي بالسلطة التي يمارسها أو ينتجها أو يُجليها الخطاب. هذه العتبة رغم أهميتها القصوى مواجهة بتحديات ثلاث؛ الأول: أنها محصورة بدرجة أساسية في السياق الأكاديمي. والثاني: أنها غالبا ما تكون قوة مقاومة بالقوة وليست بالفعل، إذ إن مرحلة ما بعد تعرية الخطاب السلطوي والوعي به لا تكاد تدرس في التحليل النقدي للخطاب؛ فهناك اهتمام محدود للغاية بالطرق الخطابية التي يمكن من خلالها مقاومة الخطابات السلطوية4. لكن التحدي الثالث هو الأهم؛ ويتمثل في أن هذه التعرية تستند إلى قدرات تأويلية، أي أن ثمة طابعًا شبه ذاتي يطبع النتائج التي يتوصل لها المحللون الناقدون للخطاب. وأظن أن هذا الطابع راجع إلى إغفال التلقي الفعلي للخطابات من قبل جمهور معين في سياق محدد، والاكتفاء بدراسة ما يمكن أن تعنيه هذه الخطابات أو تفعله أو تكونه أو تحيل إليه في فضاء تأويلي لا تاريخي. وربما أدى هذا الإغفال إلى التشكك في بعض النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها المحللون الناقدون للخطاب، حين يغفلون التلقي الفعلي للخطابات التي يدرسونها. وذلك على نحو ما أوضح بجلاء إتش.جي.ويدوسون في عدد من أعماله المهمة5.

قد يهمك ايضاً:

كذلك ينطوي التحليل النقدي للخطاب على مخاطر ناتجة عن مركزيته الأوروبية والإنجليزية تحديدًا. فمعظم الكتابات حوله تتصل بالسياق الأوروبي وتتخذ من الإنجليزية لغة لها. تتجلى خطورة هذه المركزية في نزوع التحليل النقدي للخطاب إلى التعامل مع أسسه النظرية، ومنظومة إجراءاته بوصفها ذات طبيعة كونية، قابلة للتطبيق والاستخدام في تحليل كل اللغات والثقافات. وهو أمر غير حقيقي. وينطوي على هيمنة معرفية وثقافية تمثل بذاتها نقيضًا لدعاوى التحليل النقدي للخطاب.

يضاف إلى ذلك أن لكل محللٍ من محللي الخطاب إيديولوجيته الخاصة التي يسعى لتكريسها والدفاع عنها – بوعي أو غير وعي- بواسطة استخدام أدوات التحليل النقدي للخطاب ذاته. وهو ما يعني أن الشعارات النبيلة التي يرفعها ممارسوه مقيَّدة ومحكومة بالانتماءات الأيديولوجيا لهم. وربما يدفعنا ذلك إلى الحذر من بعض الممارسات التي تُغلفها مثل هذه الشعارات. وسوف أستشهد على أهمية هذا الحذر بحادثة كنت طرفا وشاهدًا عليها.

أثناء دراستي في قسم علم اللغة بجامعة لانكستر الإنجليزية – حيث يوجد بعض أهم مؤسسي التحليل النقدي للخطاب مثل نورمان فيركلف وبول شيلتون وروث فوداك المحررة الرئيسية لهذا الكتاب- وقع جدال ساخن ومشحون على البريد الإلكتروني الخاص بجماعة بحث تحمل اسم ’اللغة والأيديولوجيا والسلطة Language, Ideology & Power‘، وهي جماعة تضم كل المحللين الناقدين للخطاب في جامعة لانكستر وكثيرًا من محلليه خارجها. وذلك بسبب توزيعي بعض رسوم الكاريكاتير التي رسمها الفنان البرازيلي كارلوس لاتوف Carlus Latuff ليفضح الهلوكوست الذي مارسه جيش الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين في حربها الأخيرة على غزة. وفور توزيع الرسوم تلقيت رسائل من روث فوداك وباحثين آخرين تتهم الرسومات بمعاداة السامية؛ على الرغم من أن الرسومات لم تتعرض لأي شيء عدا تصوير وحشية الجرائم العسكرية الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة، وصمت العالم المشين تجاهها. وقد استمر الجدل على شكل عشرات الرسائل الإلكترونية لمدة ثلاثة أيام، واشترك فيه اثنا عشر باحثًا وباحثة في التحليل النقدي للخطاب من تسع دول، وظلت التهمة معلقة.

وقد تأكدت لدي إثر هذه الواقعة ملاحظاتي السابقة الخاصة بكون بعض كتابات التحليل النقدي للخطاب تنطوي على تحيزات وتمييزات واعية أو غير واعية، وتتأثر بشدة بالإيديولوجيات الخاصة بالباحثين أنفسهم. فهؤلاء الذين هاجموا الرسومات الكاريكاتورية بدعوى أنها معادية للسامية كانوا يخدمون -بقصد أو بغير قصد- مصلحة إسرائيل في أن يتم الربط بين انتقاد ممارساتها كدولة احتلال وبين معاداة اليهود؛ التي لا يختلف أحد على أنها عمل عنصري مشين. وبذلك يتم تقييد وإجهاض أي نقد لممارسات دولة الاحتلال الإسرائيلية، التي تنتهك حقوق الإنسان والقانون الدولي.

أما هؤلاء الذين رأوا في الرسومات عملا نبيلا يعري جرائم وحشية ضد الإنسانية فقد كانوا يدافعون عن حق نقد وفضح هذه الجرائم؛ أيًّا كان مرتكبها أو المتستر عليها. وما بين أولئك وهؤلاء كانت المصالح الشخصية للبعض تدفعه لتسخير أدوات التحليل، للخلوص إلى أحكام يثق هو نفسه في فسادها، وهشاشتها. فقد ادَّعى أحد الباحثين في رسالة إلكترونية أن الرسومات تنطوي على معاداة للسامية، ذاكرًا بعض العبارات المشوَّشة، والحجج الهشة تأكيدًا لرأيه. وحين جمعنا لقاء طويل بعد ذلك بشهور، اعترف أنه مقتنع بأن الرسومات التي قمتُ بتوزيعها ليس فيها ما يُسيء مطلقًا إلى اليهود بأي شكل كان، لكنه أراد أن يُظهر دعمه لرأي مشرفته على رسالته الجامعية في الجامعة التي كنا ندرس بها في موقفها المنتقد للرسومات، حتى ينال استحسانها!!

وهكذا فإنه على الرغم من التوصية التي تقدم للباحثين بخصوص تأملهم لذاتهم self-reflection أثناء ممارساتهم الأكاديمية، فإن ارتباط التحليل النقدي للخطاب بقضايا سياسية واجتماعية حساسة، والتأكيد المستمر على ضرورة أن يكون للباحث موقف إزاء القضايا التي يطرحها الخطاب المدروس يؤدي في بعض الأحيان إلى إضفاء طابع أيديولوجي واضح على بعض الدراسات؛ خاصة لدى الباحثين المبتدئين. وتتزايد خطورة هذا التحيز حين نضع في الاعتبار أن العلم ذاته ليس بمعزل عن تأثير علاقات السلطة والهيمنة. وخلاصة الأمر أنه من الضروري تحليل الخطاب “العلمي” الذي يقدمه دارسو التحليل النقدي للخطاب تحليلاً نقديًا. كما يقع على عاتق الباحثين العرب المهتمين بالتحليل النقدي للخطاب مهام أخرى لعل أهمها تطوير إجراءات أكثر ملاءمة للغة العربية التي تشكل المادة الأساسية للخطابات العربية، وللمجتمع العربي الذي يمثل السياق الحاضن لهذه الخطابات.

المترجم د. حسام أحمد فرج (رحمه الله)

المترجمة د. عزة شبل محمد

اترك رد