بقلم الشيخ : محمد عاشور
من العجيب انتشار المساجد بكثرة في بعض الأماكن الضيقة، والتي قد لا تحتاج لكل هذا العدد من المساجد، وتنفق الكثير من الأموال في زخرفتها، وهي لا تكاد تمتلئ بالمصلين إلا في صلاة الجمعة فقط، وقد يأخذ شكل التفاخر بين العائلات أو أصحاب النفوذ، في الوقت الذي تحتاج فيه نفس المنطقة إلى منشئات خدمية لا تقلّ ثوابًا عن المسجد، بل تزيد في كثيرٍ من الأحيان، فمثلًا الناس دائمًا في حاجة إلى مستشفيات، ومدارس، ومعاهد أزهرية، ومراكز علاجية متخصصة، وحضّانات للأطفال الفقراء، ومراكز للرعاية المركزة، والغسيل الكلوي، وغيرها مما كثرت الحاجة إليه، على قلّتها، مما يؤكد لنا وجود خلل في فهم الناس لأعمال الخير، حيث اقتصروا على بناء المساجد، طامعين في الثواب العظيم من رب العالمين، ولهؤلاء أوجّه هذه الرسالة:
إن بناء المساجد من أعظم القربات وأجلّ الطاعات سيّما إذا احتاج الناس إليها، لكن حاجتهم تشتد لغيرها في بعض الأوقات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال (…..وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ….. الحديث) متفق عليه. وهذا يعني أنه يستطيع أن يصليَ في أي مكان طاهر يسمح بالصلاة فيه لكنه لا يستطيع أن يعالج في أي مكان، ولا أن يتعلم من أي مكان، ولاينتج في أي مكان، ومن هنا أدعو القادرين وأهل الخير إلى إعادة ثقافة الوقف من جديد.
فالوقف هو: “حبس المال عن الاستهلاك، للانتفاع المتكرر به في وجه من وجوه البر”. وهو من أنواع الصدقات الجارية، وأبوابه لا تنحصر .
أدعو أهل الخير إلى إعادة الإيقاف على المحتاجين، فقد كانوا قديمًا يُوقفون على المرضى والمسنين، والعجزة، والمجاذيب، والمطلقات بلا مأوى، والأطفال بلا عائل، وابناء السبيل، والغارمين، ولطلبة العلم، وتيسير زواج الفقيرات وهكذا…. في كل ما يتعدى نفعه للأخرين،
ولم يقتصر الوقف فقط على الإنسان، بل تعداه إلى الوقف على الحيوانات والطيور، وهذا موجود بالتفصيل في حضاراتنا.
جاء في كتاب من روائع حضارتنا. د مصطفي السباعي وكتاب: ذكريات. علي طنطاوي صورًا لمثل هذه النماذج التي تدل على رحمة المسلمين بكل الكائنات، وكذا باتساع أفقهم حول فهمهم لثقافة الوقف.
فمثلًا:
فقد عرف المسلمون أوقافًا خاصَّة لتطبيب الحيوانات المَرِيضَة، وأوقافًا لرعي الحيوانات المُسِنَّة، وكان من بين أوقاف دمشق وقف للقطط تأكل منه وترعى وتنام فيه! حتى إنه كان يجتمع في دارها المخصَّصة لها مئات القطط السمينة التي كان يُقَدَّم لها الطعام، وهي مقيمة لا تتحرَّك. وأوقافًا لرعي الحيوانات المسنة العاجزة كوقف أرض المرج الأخضر بدمشق، وفي الشام وقفًا للقطط الضالة يطعمها ويسقيه، سميت بمدرسة القطاط، وهي في القيمرية الذي كان حي التجار في دمشق؛ ووقفًا للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها، سمي اسمًا غريبًا “محكمة الكلاب”، وهو في حي “العمارة”.
وكان هناك أوقاف للطيور، والحيوانات، وكذا وقف لبغلة شيخ الأزهر.
وكان هناك وقف للطيور المهاجرة، يعدّ لها الحبوب، ويكرمها في موسم هجرتها؛ كأنها تأخذ حق ضيافتها.
وكان في مصر منشئات وقفية لرعياة الحيوانات، لسقيها، وعلاجها، وحتى لنومها كالاسطبلات وغيرها، وكذا رواتب القائمين عليها.
ومن أوائل الأوقاف التي عرفها المسلمون رسميًا ومنها استمدوا أحكام الوقف وشروطه، كان وقف عمر بن الخطاب في أرضه بخيبر؛ فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أصاب عمر بخيبر أرضا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه فكيف تأمرني به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه).
وكذا وقف عثمان بن عفان رضي الله عنه لما اشترى بئر رومة فقد كان أفضل مياه المدينة وكان الصحابة يذهبون إلى البئر للشرب منها، إلا أن صاحبها كان لا يمنح منها شربة ماء دون مقابل، عندها قال النبي -صلى الله عليه وسلم: “من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين”، فذهب عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لمالك البئر وطلب أن يشتريها منه إلا أنه رفض أن يبيعه البئر كاملة، فطلب عثمان -رضي الله عنه- أن يشتري نصف البئر، فباعه نصفها، بحيث تكون يوما له ويوما لعثمان -رضي الله عنه-، فأصبح الصحابة يذهبون في يوم عثمان بن عفان ويشربون من الماء بلا مقابل، ولا يذهبون للبئر في يوم صاحبها، ما ألحق به الخسارة، فطلب من عثمان بن عفان -رضي الله عنه- شراء النصف الباقي بمبلغ ثمانية آلاف درهم، فيما سبق أن اشترى النصف الأول بمبلغ 12 ألف درهم ليصبح إجمالي قيمتها 20 ألف درهم، ثم أوقفها عثمان -رضي الله عنه-، على المسلمين وأصبح الماء فيها مجانا منذ ذلك اليوم حتى الوقت الحالي. وما زال الوقف مستمرًا حتى يومنا هذا، ولا تزال تروي سكان المدينة حتى اليوم، ولها مزارع تابعة لها، كل هذا في ميزان حسنات الواقف رضي الله عنه.
وهناك أسهم لأوقاف تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد النبوي الشريف لمن أرد أن يشارك في هذا الفضل والخير.
وهناك أوقاف مبتكرة في منفعة الناس، كإسهامات الأميرة فاطمة إسماعيل ببيع مجوهراتها لبناء جامعة القاهرة، وكذا عبدالرحيم باشا الدمرداش لبناء مستشفى الدمرداش، وكثير ممن ساهموا بأموالهم في خدمة الناس لوجه الله تعالى.
ولا يخفى علينا نماذج مشرفة مثل أوقاف الراجحي، والخرافي، فهي تنفق المليارات في مشاريع الخير المختلفة والإطعام والتعليم وتحفيظ القرآن،والأيتام والمرضى والمحتاجين، وبناء المساجد وغيرها، ويمكن التعرف على هذه المشاريع، بحيث أصبحت من المشاريع الكبرى التي تساعد في نمو الاقتصاد ونحسب أن كل هذا في ميزانحسنات الواقف.
وفي كل عام يخرج علينا إعلان عن مسابقة بحث علمي لجائزة خصصت باسم المستشار الفنجري، فيتنافس الباحثون سنويًا ويقرأون ويأتون بأفضل ما ينفع الناس، ونحسب أن كل هذا في ميزان حسناته؛ فبناء مصنع وفتح شارع ووقفه لا يقل في ثوابه عن بناء مسجد، بل قد يزيد في بعض الأوقات من حيث احتياج الناس ومدى تأثيره. فالباب مفتوح، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله…. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.