مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق يكتب: القصة الشاعرة ووحدة الفنون

4

القصة الشاعرة ووحدة الفنون

أ.د. شاكر عبد الحميد

 

تستلهم القصة الشاعرة روح التفاعل بين الفنون ومن ثم فإنها تؤكد أهمية التداخل بين الكلمة والصورة، بين السرد والتخيل، بين ما هو زمني وما هو مكاني وهي تمتد بجذورها إلى فكرة ربما كان الشاعر الفرنسي بودلير من أكثر المهتمين بها في العصر الحديث؛ نقصد: فكرة التأليفية أو التركيبية، حيث تشير التأليفية أو التركيبية أو تراسل الحواس إلى عملية المزج بين حاستين أو أكثر خلال الإدراك أو التعبير أو الإبداع.

وقد كان بودلير – الذى تحدث عنها كثيرا – أقرب إلى النزعة الطبيعية فى ولعه الخاص بالألوان، وقد ربط بين الألوان وبين نظريته الخاصة حول الاتفاق بين الظواهر الحسية والظواهر المفارقة أو الروحانية، وقد اتفق مع المدرسة الطبيعية فى مراحلها المتأخرة فى تأكيده عدم الثقة بقدرة الكاتب على تمثيل الأشكال المنتظمة الموجودة فى العالم الواقعى من خلال اللغة فقط، بل من خلال علاقة هذه اللغة بعالم الصور والخيال بشكل عام وفى ضوء المنظور الديكارتى الخطى المحدود للمكان.

الجدير بالذكر أنه وبعد أن قام الناقد الروسي الشهير ميخائيل باختين (1895-1975) بدراسات مهمة في حقول اللغة – والنقد الأدبي والأنثروبولجيا والفلسفة؛ وقام أيضا بدراسات حول فرويد (المحلل النفسي المعروف) ودستويفسكي (الأديب الروسي المعروف) فإنه انتقد بشدة أفكار فرويد، ونظرياته، بسبب تركيزه الخاص على “الأنا الفردية” ودورها في النكتة والإبداع والثقافة والمرض النفسي والسلوك الانساني بشكل عام، لكنه امتدح وأبدى اعجابه الشديد بما قدمه دستويفسكي، وذلك لأن رواياته ، كما قال، هي روايات متعددة الأصوات (بوليفونية) وخلص من ذلك كله إلى القول بأن العقل الإنساني، بطبيعته، عقل حواري، وإن تمثيلاته الثقافية المتعددة هي، في جوهرها، تجسيدات لهذه النزعة الحوارية، وأن دستويفسكي لا يتفوق في تجسيده لذلك على فرويد فقط بل وعلى تولستوي أيضًا؛ وذلك لأن تولستوي معني، في أعماله، بالنجوى الفردية، أما روايات دستويفسكي فتقوم على اساس النمط الحواري او متعدد الأصوات.

فى خطابه أمام الأكاديمية الملكية للنحت والتصوير عام 1741 قال أحد أعضائها، وهو أنطوان كويبل A. Coypel ،: “إن الرسام من الطراز العظيم ينبغى أن يكون شاعرا، ولا أقصد بذلك أنه ينبغى له أن يكتب الشعر، ولكن ما أقصده هو أنه لا ينبغى أن يكون الرسام مملوءًا فقط بالروح التى تحرك الشعر، ولكن ينبغى له أيضًا أن يعرف قواعد الشعر، وهى نفسها قواعد التصوير، إن التصوير. ينبغى أن يقوم بالنسبة إلى العينين بالأمر نفسه الذى يقوم به الشعر بالنسبة إلى الأذنين”.

ولعلنا نجد الأمر نفسه فى قول بيكاسو لفرنسوا جيلو، زوجته، “إن التصوير هو شعر، شعر مكتوب فى أبيات بإيقاعات تشكيلية، وهو لا يمكن أن يكتب فى حالة نثرية أبدا”. وقبل هوراس بأربعة قرون كتب سيموندس يقول “إن التصوير شعر صامت، والشعر تصوير متكلم”. أما ليوناردو دافنشى فى القرن السادس عشر فقد كتب يقول إن التصوير هو الشعر الذى يرى ولا يسمع، والشعر هو التصوير الذى يسمع ولا يرى”. وهى مقولة نعتقد أنها ناقصة، فصحيح أن الشعر يسمع بالأذن، لكنه قد يرى أيضا بعين الخيال والذاكرة، وتدفقات صور الشاعر عبر قصائده قد تصاحبها تدفقات مماثلة للصور فى عقل القارئ أو المتلقى.

إن الكاتب ينبغى له أن يكتب بعينه ، مثلما يمكن للرسام أن يرسم بأذنيه كما قالت جروترود شتاين ذات مرة. إن ألفاظًا مثل ” الاسكتشات ” أو التخطيطات العامة ، والصور الشخصية (البورتريه ) والوصف والتمثيل والمنظر الطبيعى ..إلخ، هى من الألفاظ المشتركة بين الرسم والتصوير من ناحية، وبين الكتابة النثرية والشعرية. من ناحية أخرى، وفى الحالتين هناك صورة ما أولية للعمل الإبداعى تتشكل فى البداية ثم تكتمل تفاصيلها بعد ذلك، وكما يقول فان جوخ إنه “من أجل القيام بملاحظات من الطبيعة أو إنجاز بعض الاسكتشات القليلة فإن شعورا قويًا متطورا بالتخطيط هو أمر ضرورى تمامًا ، كما هو أمر ضرورى أيضًا فى مرحلة الامتداد بالتكوين” .

قد يهمك ايضاً:

الأهلي يكتسح الإتحاد السكندري برباعية في الدوري الممتاز

ضبط مصنع تعبئة زيوت غير صالحة ومعاد استخدامها بالإسكندرية

وقد ميز مايتس كذلك بين العين التى ترى الأشياء السطحية الظاهرية وتسجلها على علتها بطريقة حرفية (عين الكاميرا)، وبين العين الثانية ( عين الفن ) التى تدخل فى صراع مع العين الأولى، وتعمل على إبداع الجديد الأصيل ، وهى العين التى فى المخ.

كذلك قد كتب الشاعر الأمريكى ستيفن سبندر يقول: “إن القصيدة تشبه الوجه الذى يكون الإنسان قادرا على تصوره بصريا بوضوح بعين ذاكرته “، وقال “إن مهمة الشاعر هى إعادة إبداع هذه الرؤية “. وكتب تشيكوف يقول إنه على الكاتب أن يعتاد ملاحظة نفسه ملاحظة واعية حتى يصبح ذلك طبيعة ثانية لديه.

يقول فان جوخ ” تمتعوا بالإنصات إلى إميل زولا وهو يتحدث عن الفن، إنه بنفس مقدار أهمية مشهد رسمه رسام بورتريهات. وفى مشهد مشهور عن موت بيركوث، إحدى شخصيات رواية “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل  بروست، يذوب بيركوث، أو بالأحرى يموت عشقا للتشكيل الهولندى. لقد جعل منظر ديلفيت فى مرآة الفنان فيرمير حياة الشاعر الرقيق ذى الشعر الأبيض تتسلل كاملة أمام عينيه بفراغ عمله الشخصى ، وربما أيضا بالعجز الكئيب للكلمات عن تصوير سماء، أو سكون المدينة صباحا ، لذا يصرخ الراوى: “هكذا كان علىَّ أن أكتب “.

هكذا يكون الولع بالصورة، والرغبة فى التصوير ورسم المشاهد، رغبة قارة فى أعماق الكتاب يحاولون من خلالها تجسيد أعمالهم وإبراز تصوراتهم وتحقيق تأثيراتهم المرجوة فى المتلقين والقراء. هكذا نجد الرسامين فى أعمال الكتاب، ونجد الكتاب فى أعمال الرسامين، كما أننا نجد الرسامين الكتاب والكتاب الرسامين أيضا، هكذا نجد سومرست موم يجسد شخصية جوجان فى “القمر وستة بنسات”، ونجد إرفنج ستون يكتب عن فان جوخ، ونجد تورجنيف يرسم بورتريهات سريعة بالحبر لشخصيات بعض رواياته ، كما نجد الأمر نفسه لدى د0هـ0لورنس ووليم بليك على نحو بارز ، وفيكتور هوجو نفسه قال عنه تيوفيل جوتييه إنه ما لم يكن شاعرا فإنه كان سيعد مصورا من الطراز الأول، وقد اعترف همنجواى بتأثيرات سيزان الكبيرة فيه، تلك التأثيرات التى كانت تنادى بالتلخيص والبحث عن الأساس والجوهرى والضرورى فقط . يقول همنجواى: “لقد تعلمت من أعمال سيزان أن كتابة بعض الجمل البسيطة الحقيقية هو أمر كان لأن تشتمل القصة على كل الأبعاد التى أحاول أن أضعها فيها”. وتقول جروترودشتاين:”لقد تعلمت من سيزان كيف أرى وكيف أكتب بعينيه”. ولم يكن همنجواى مهتما بما رسمه سيزان فى ذاته – كما قال حسن سليمان – بقدر اهتمامه بكيفية رسمه له، كما أن مارسيل بروست كان يضع لوحات رسكن فى اعتباره وهو يكتب روايته الشهيرة “البحث عن الزمن الضائع”.

هكذا تكون العلاقات المشتركة من خلال مفهوم الصورة بين الكتابة والتصوير علاقات كثيرة ومتعددة ، سواء من حيث المصطلحات الأساسية ( البورتريه ، الاسكتش ، المنظر ، الوصف ، التصوير،0إلخ) أو من حيث العمليات الأساسية (التفكير بالصورة والتفكير البصرى ) أو من حيث الناتج الإبداعى أيضا، نجد ذلك فى لوحات الكولاج التى تجمع بين الصور والشعر، أو الكتابات النثرية، وكذلك القصائد البصرية الهندسية أو الدائرية التى تأخذ شكل لوحات تشكيليه، هناك فن الخط الذى يطمح إلى استلهام روح اللوحات، فيجمع بين الكلمة والرسم والتصوير، وهناك القصة اللوحة واللوحة القصة، والقصيدة التى تكون قصيدة بقدر ما تكون كتابة بصرية مصورة، والتصوير الذى يكون تصويرا بقدر ما يكون ناطقا أو كتابة. لقد تحدث بعض الفنانين الصينيين عن نشاطهم، أثناء الرسم فقالوا إنهم لا يرسمون اللوحات بل يكتبونها، ويمكننا قول الأمر نفسه عن بعض الأدباء، فنقول إنهم لا يكتبون القصة أو القصيدة بل يرسمونها أو حتى ينحتونها، وهكذا تحقق مقولة بيكاسو:”الفن واحد ، فأنت يمكنك أن تكتب الصورة بالكلمة ، كما يمكنك أن تصور احساساتك فى قصيدة بالكلمات”، وقال أيضا: “إننى لو كنت قد ولدت صينيا، فلم أكن لأصبح مصورًا بل خطاطا، إننى أكتب لوحاتى”. هناك صور فى الكلمات، وهناك كلمات فى الصور ، وقد أدت الدراسات الحديثة حول نشاط المخ ووظائفه، إلى إعادة تعريف المجازات اللغوية بوصفها ظاهرة تماثل المجازات البصرية الخاصة بالفنون التشكيلية والسينمائية ، فهى أكثر عيانية وتجسيداً مما تبدو، وهى فى الوقت نفسه أكثر تجريداً وكلية مما تبدو.

لقد نصح ليوناردو دافنشى الفنان المبتدئ، وكذلك الفنان المتمرس، عندما ينضب خياله بأن ينظر إلى السحب ويتخيل المعارك، أو ينظر إلى الجدران ويتمثل المشاهد الخاصة بالحروب والأحداث عليها، ونجد كذلك أمثلة دالة على هذه السحب التى تأخذ شكل التنانين والنجار الذى يأخذ شكل الدب أو الأسد أو الجبل أو القلعة فى حوارات هاملت مع بولونيوس فى مسرحية شكسبير الشهيرة. ونحن نعرف مقولة ميكل أنجلو عن الفنان الذى يصور بعقلة لا بيده، والعقل هنا يشتمل على الخيال أكثر من اشتماله على التفكير المنطقى، كما إننا نجد أمثلة كثيرة على التشابه فى تسلسل عمليات الإبداع من حيث اشتمالها على مراحل فرعية، مثل الإعداد والاختمار والظهور المفاجئ للأفكار، ثم التنفيذ والتعديل.. إلخ بين الكتاب والرسامين وقد اتضح هذا على نحو جلى من دراستنا حول الإبداع فى القصة القصيرة، وفى فن التصوير أيضا، ونجد كذلك أمثلة للتشابه فى إيقاع العمل بين فنانين أمثال بيكاسو وكتاب أمثال بلزاك حيث كان بيكاسو عندما يضع الفرشاة على الورقة لا يعرف متى يتوقف وكان بلزاك عندما يبدأ الكتابة يكون فى حالة من الإقبال الشديد على الحياة حد النهم وكلاهما كان يعتمد على الذاكرة البصرية، وعلى التوالد غير العادى للصور والأفكار والشخصيات والأحداث. هكذا تتعدد العلاقات بين فنون الأدب وفنون الرسم والتصوير بحيث تكاد تصل إلى حد القول بعدم وجود فروق حاسمة بينهما إلا فيما يتعلق بالوسيط الغالب فى التعبير فى كل منهما: الكلمة فى الفنون الأدبية ، والصورة والشكل فى حالة الفنون البصرية .

من هنا كان لابد من ظهور لون أدبي جديد، أو فن جديد نستطيع باطمئنان القول بأن كاتبه يكون في حالة من الإقبال الشديد على الحياة ـ ماضيها وحاضرها ومستقبلها.. انكسارات الإنسان المعاصر وانتصاراته ـ “حد النهم”.. شاعر قاص.. يمتلك ذاكرة تصويرية تشكيلية .. تختزن الواقع، فتعيد تشكيله وتطويعه في ثلاثية “الزمان.. المكان.. الإنسان”.. حالة من التماهي الاستثنائي والشفافية حد الوضوح المدوي .. وبحداثة ـ أو ما بعدها ـ لا تخلو من أصالة هي ركن راسخ من أركانها.. حالة يكون فيها المبدع قاصًا.. شاعرًا.. مصورًا.. محللا.. ومفندًا.. هي حالة.. أو فن “القصة الشاعرة”. .

 

 

 

مراجع:

  • Rogers, F (1985) Painting and Poetry, Form, Metaphor and Language of Literature. N. Y: Associated University Press
  • شاكر عبدالحميد (1987) العملية الابداعية في فن التصوير. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 109
  • شاكر عبدالحميد (1992) الأسس النفسية للابداع الفني في القصة القصيرة خاصة. القاهرة: الهيئة العامة للكتاب
  • شاكر عبدالحميد (2005) عصر الصورة، السلبيات والايجابيات. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 311
  • ريجيس دوبريه (2002) حياة الصورة وموتها (ترجمة: فريد الزاهي) الدار البيضاء: افريقيا الشرق، 37 -38
  • حسن سليمان، مارسيل بروست والفن التشكيلي، مجلة الهلال المصرية، عدد يناير 1998
اترك رد