بقلم – هادية حساني..تونس
بدت واثقة، متمكنة، شرحت أطروحتها بإطناب، أجابت عن كل أسئلة اللجنة، أما هو فجالس بآخر مقعد، تطوح به أحاسيس وهواجس مبهمة متضاربة، هي مزيج من خوف واضطراب وفرح وحزن..
حانت اللحظة الرهيبة، فساد الصمت، صدره يكاد ينخلع..
«قررت اللجنة بالإجماع منحك شهادة الهندسة بملاحظة ممتاز »
لم يعر اهتماما لهيبة المكان، قفز كالمجنون، متخطيا الصفوف وسط الرقاب الملتوية، الجميع مشدوهون ! صعد المنصة، ضمها بعنف محاولا أرجحتها لكنّ وزنها وذراعيه خذلاه، دار بها عدة دورات، فماجت القاعة من حوله، كأنه يحلم… انهالت عليه الصور كشريط لا نهاية له…
جرجرته كخرقة في ذلك الفجر الأغبش، الذي مازال أعشى يطل من النوافذ، قضى أياما عصيبة، بطعم الحنظل، بيد أنه صمد صمود الأبطال، مثل كل رفاقه من مساجين الرأي الذين عشقوا البلاد ونسائم الحرية، ظل أصلب من جلمود، أمام إصرارهم على اعترافه، تفننوا في تعذيبه، لكن عزيمته لم تفل، كان متأكدا من انتصاره، والحلم الذي رآه هو أكبر دليل ! نعم الحلم !
أحيانا يخاطبه صوت من أعماقه :
– أليس ضربا من الجنون أن تواجه أعتى الجلادين، هؤلاء الوحوش الضارية بمجرد حلم !؟ تتحدى عش الدبابير بحلم يا ناجي !؟ أية مفارقة هذه !؟
– نعم أتحداهم، وسأخرج لأجل حبيبتي !
في تلك اللحظات السوداء، تعلم كيف يترك لهم جسده، و يرحل بخياله الحر، نعم خياله !؟ لم يكن يملك سلاحا غيره ! حتى عند غيابه عن الوعي، كانت معه في اللاوعي..
هي مجرد صورة مقتطعة من مجلة، تشبه حلمه،
ألصقها على جدار غرفته بالمبيت الجامعي، وببيتهم في قريته النائية، ثم رسمها بدمه على جدار زنزانته الموحشة..
حلم بها طفلة بهية، وجهها كالبدر، تغازله في النوم واليقظة، صارت حياته، عالمه الوردي، اختار لها اسما، حكى عنها لأمه..قالت:
– حلم جميل! خير يا وليدي، بشرى خير، البنت هي الدنيا ! الدنيا ستضحك لك !
وانتقل الحلم إلى أمه، فامتلات أملا وفرحا..
اعتقلوا أغلب رفاقه، فأحس أن دوره اقترب، فمد لها الصورة، وكأنه يسلمها ابنته فعلا :
– حافظي عليها !
نظرت إليه مغالبة دموعا وعبرة خنقتها فخرج صوتها بنزق :
لا تخف ! تمسك بحلمك هو أملك !
دستها في صدرها حتى عاد إليها. ورغم طرده من وظيفة التعليم لم ييأس، وازداد تشبثا بحلمه الأكبر، إنجاب بنوتته الرائعة !
و غدا حلمه يكبر ويكبر…حتى صار حقيقة…
يرفعها إلى أعلى، ينزلها على كتفيه وصدره، يعانقها، فتنتابها هستيريا ضحك وهي تأرجح رجليها، خوفا من أن تسقط، لن تكبر في نظره أبدا، حتى وهي شابة تجاوزت العشرين، ستبقى طفلته المدللة..
تجلس على ساقيه، وترتمي في حضنه، فعلا طفلة لم تتغير ! تذكره بحضن المرحومة أمه، وحبها الذي فاق الوصف، يرفع عينيه يراها شامخة في «حرامها» الأحمر تحت نخلتهم، وهي تبتسم إليه، ينسحب من هيفائه بسرعة، يصل النخلة بلمح البصر، لا وجود لأمه، كانت سرابا، لكن آثار قدميها الحديثة مرسومة على الأرض بوضوح، نعم هي ! لا يمكن أن يخطئها بأصبعها الأكبر المفقود في القدم اليسرى الذي بتر يوم رمت بنفسها في البئر لإنقاذه، مد يده ليتأكد من وجودها، خط فوقها فعلا هي حقيقة وليست خيالا، ركض في أطراف الحقل باحثا عنها، لكن لا أثر لها، بيد أنه يشعر بوجودها في كل شيء…