بقلم – عبدالله بير:
انتبه لأصابعك يا فتى، لا تضع حيث يأمرك فضولك ، لا تحشر أنفك يا فتى فيما لا يعنيك.
قال الشيخ شمدين وهو ينظر إلى الخارج من خلال النافذة الصغيرة في غرفته، وظهره إلى الباب الذي دخل منه ئالان مع صُّرُّة في يديه.
– ما هذه الآلة العجيبة يا عمي الشيخ؟
سأل آلان وهو يحاول ان يلامس بأصابعه الصغيرة تلك الآلة العجيبة والموضوعة على الرف الحجري قرب باب غرفة الشيخ.
– لماذا غرفتك صغيرة ومظلمة، لماذا لا تحب الخروج إلى الناس؟ كم من الوقت أمضيت في هذه الغرفة المظلمة؟ سأل الفتى وهو واقفٌ قربَ الباب داخل الغرفة وينظر حوله وهو مازال يحمل صُّرُّته في إحدى يديه.
– لماذا تسأل هذه الأسئلة لعجوز مثلي؟ انت لم تكن تسأل من قبل, بل لم تكن تدخل الغرفة ؟
قالها الشيخ واستدار نحو ئالان, كان الشيخ يلبس ثوباً اسوداً طويلاً فضفاضاً، كان وجهه مجعداً ولديه لحية طويلة بيضاء لامعة كأنها مدهونةً بزيتٍ أو كأن غبار اللؤلؤ نُثر عليها، كان قسمات وجهه قاسية، مع ذلك كان لديه نوع من الصفاء على وجهه ولا يبدو عليه الغم أوالحزن.
– لم أعد أخاف من الظلمة كما كنت من قبل، والغرفة تبدو في الخارج مظلمة جداً ولكنها في الداخل غير ذلك، إنها مضيئة.
قال آلان
قال الشيخ وهو يتقدم بخطوات بطيئة نحو آلان :
– النور والظلام تؤامان، لا معنى لأحدهم بدون الآخر، وبفقدان أحدهما يفقد الآخر.
– يعني هما اخوة. قال آلان.
– بل هما نّدان . قالها الشيخ.
– آها، هما أعداء . قال الفتى
-هما ندّان، انت ما زلت صغيراً ولكن اعلم إنهما نّدان. أنا هكذا عرفت لا أكثر . ختم الشيخ كلامه وهو لا يزال يتقدم نحو الفتى.
– لم تقل لي ما هذا الآلة يا عمي الشيخ؟ ،استدار آلان نحو الآلة مرة أخرى وسأل الشيخ.
– هل جلبت غدائي؟ سال الشيخ
– نعم . أجاب الفتى.
– ماذا جلبت ؟
– جلبت كما أمرت, ماء وخبز وسمن وعسل. قال الفتى.
– حسناً فعلت، حسناً فعلت يا ولدي .قالها الشيخ واخذ صُّرَّة الغداء من يد الفتى وحاول أن يجلس على الرف قرب الآلة، لما مر آلان أصابعه على الآلة وصدر منها صوت عجيب فَزِعَ منه الفتى، سحب أصابعه بسرعة.
– صوتها مخيف وعجيب، كيف لهذا الصوت ان يكون موسيقى؟ قال آلان وهو في حالة إنبهار.
– يا بُنيّ صوت هذه الآلة ليس للأُذن ، إنها لا تُعزف هكذا ، متى صِرت متحداً مع الآلة عندئذٍ تسمع صوتها هنا و أشاره الشيخ إلى صدره ، ثم اضاف:
– يا بُنيّ أهدى الله كل أنسان هدية ، وهي عبارة عن صندوقٍ فيها جوهرةً غالية الثمن، لكن قليل من الناس استطاعوا فتح الصندوق ورؤية الجوهرة التي فيها، الذين فتحوا الصندوق لن يموتوا أبداً، خالدون ما دامت الأرض والسماوات، لذا انا في هذه الغرفة المظلمة مع هذه الآلة العجيبة أُحاول فتح صندوقي، صارت لي سنون كثيرة أحاول فتحها ولكني لم أفلح بعد ولا اعرف إذا كنت سأفلح في النهاية أم لا.
– أي صندوق؟ سال آلان ثم أضاف:
– وهل املك انا ايضاً ذلك الصندوق؟
– نعم . أجاب الشيخ و قام من مكانه واتجه نحو الفتى ووضع اصبعه الثخين على صدره وقال:
-هذا هو الصندوق وقلبك هو الجوهرة.
– لن أدع أحداً يأخذ جوهرتي، عندما أكبر مثلك سأفتح الصندوق واحصل على جوهرتي وأبيعها لأتزوج بها، لأن أبي قال إن الشيخ لم يتزوج لأنه لم يكن يملك مالاً. أمسك الفتى صدره وقالها ضاحكاَ.
ضحك الشيخ واسند ظهره الى الرف وقال :
– إذا فَتحتَ قلبك وسَمِعتَ بروحك، عندئذٍ تكون الدنيا كلها كحبة رمل بين يديك.
ثم جلس الشيخ قرب الآلة مرة أخرى وهز رأسه، ثم أضاف :
– إذا لم تسمع بقلبك يوماً فإنك لم تسمع صوت الحقيقة، يا بُنيّ دعني أُسمِعُك صوت قلبي، لكنك ما زلت صغيراً على هذه الأمور، فكبيرةٌ عليك هذه، كبيرةٌ عليك .
امسك الشيخ الآلة، ومرر أصابعه عليها، فصدر منها صوت رقيق وناعم، كان صوت غريباً فعلاً ولكن لم يكن فيه نشاز، لم يكن صوتاً عنيفاً كما سَمعَه عندما لامسَ هو الآلة، كان صوتاً فيه تناغم عجيب يقشعر منها الجسد ويهز الإنسان من داخله، سَمِعَ موسيقاً لم يسمع بها من قبل.
-اه … كم هي موسيقى رائعة يا شيخ! . قال آلان وهو في حالة اندهاش تام.
-انها المفتاح، انها المفتاح . رددها الشيخ وهو يحاول ان يقوم بشيء ما.
– مفتاح ماذا يا عمي الشيخ؟ سأل آلان.
– أنت ما زلت صغيراً، اكبر وستعرف كل شيء، بعدك على الساحل ولم تدخل بحر الحياة بعد، لم تضربك امواجها ولم تأخذك تياراتها الى مواطن الغربة. رد الشيخ و اضاف :
– بدلاً من هذا كله سأقص عليك حكاية صغيرة، كانت ولم تزل تحرمني من حلاوة النوم وجمال الصحو.
ثم أخذ الشيخ نفساً عميقاً وقال:
– يا ولد، كنت فيما مضى اعمل حجّاراً في احدى مقالع الحجارة قرب المدينة، وكنت شاباً قويا ولم أكن احسب حساباً لأي شيء، كنت مثل العملاق جباراً، متمرداً، لم أكن لأرضى إلا بالذي أُريده أنا، لم أكن أعرف الخوف ولا التراجع عن فعل أي شيء، ثم دخلت قشةٌ صغيرة في قلبي كما دخلت بعوضة صغيرة في انف نمرود, لم أمت مثله بل أصبحت كما تراني. لما كنت اعمل حجاراً تزوجت من ابنة أحد عمال المَحْجَر، ورزقنا الله في اول سنة طفلاً جميلاً، وكان وجهه كالبدر في الليلة الرابعة عشرة، كان كملاك صغير وهبنا الله إياه و سميناه احمد، ملأ حياتنا بهجةً وسروراً، كان احمد يكبر يوماً بعد يوم ويزداد جمالاً حتى صار بعمرك الآن، في يوم من الأيام ألح علي أن أخذه معي إلى المَحْجَر ، وكم حاولت مع امه أن لا يأتي معي و يبقى مع امه في البيت، لكنه اصرَّ وبكى وامسك بسروالي، وانا لم أكن أحتمل بكاءه، اخذته معي، في وقت ما, صرف العمل انتباهي عنه، كان قد ذهب إلى الناحية الأُخرى للمَحْجَر ، بينما كنت اعمل في قطع الأحجار ، فجاءة سمعت العمال يصرخون ( انهيار ، انهيار ) و دوى صوت عظيم ، ثم ارتفع غبار كثير في كل ارجاء المَحْجَر، انتبهت لأحمد و ونظرت ورائي ولم اجده ، وقمت ابحث عنه، لكني لم اجده، كم ناديت وكم بحثت، ولكن دون جدوى وكأن الأرض انشقت وبلعته ، حاولت إيجاده، أصبحت كالمجنون اركض بغير هدئ، انادي، ابكي، اصرخ، اركض، اركع، امسك بالتراب وارفع راسي إلى السماء، حتى جاء أحد العمال وقال لي (وجدنا احمد) وكان منكس الراس وكأنه ينظر إلى شيء ما في الأرض. ثم قلت (اين؟)، ثم أشار بيده الى موقع الانهيار، فركضت بأقصى ما لدي من قوة، حاول أن يمسكني ولكني كنت أسرع منه ووصلتُ الى المكان، فوجدتُ احمد كومةً لحم ملطخةً بالدم ولم أكن اعرفه إلا من خلال ملابسه، ثم انحنيتُ لأحمله، لكن كأن جسده كان بلا عظم، رفعني العمال عنه، لفوه بسترة أحدهم واخذناه إلى البيت، لم تنتهي أيام العزاء إلا ومرضت امه، و لم تمضي أشهر حتى لحقت به. بقيت وحدي فترة من الزمن، لم اخرج للناس ولم أذهب إلى العمل، شعرت بأن العبء كبير عليّ، جاءتني فكرة أن ألحق بهما أنا أيضاً، حاولت الانتحار، لكني لم أمت أنقذني شخص رآني من خلال نافذة البيت، بينما كنت بين الحياة الموت سمعت صوت ام احمد وهي تقول (افتح قلبك لتسمع روحك)، وانا منذ ذلك الحين أحاول فهم ذلك و لم أستطيع بعد.
– لماذا لم تتزوج مرة أخرى يا عمي الشيخ؟ سال آلان.
– كان لي واجب آخر ينتظرني، لم أُفكر في الزواج، بل فكرت في صوت أُم أحمد، كنت دائماً انتظر لحظة اللحاق بهما، ولكن لم يتم ذلك بعد . وبدا الشيخ بفتح الصُّرَّة، ليتناول غداءه. خرج آلان من عند الشيخ وهو يتمتم:
– انا لم افهمك يا عمي الشيخ, كم أتمنى أن افعل ذلك، أن افتح صندوقي .. أن اعرف كيف افتح صندوقي؟.