مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

لا داعي للخوف من إشعاع المحطات النووية

7

بقلم – الدكتور على عبد النبى:

إن حريتنا في التفكير هي واحدة من أثمن كنوزنا ، لكن ينبغي علينا جميعا أن نفهم تأثير معتقداتنا وآرائنا على الآخرين. أنا لا أخطئ أولئك الذين يتخذون القرارات التى يشعرون بأنها “محافظة” عند نقص معلوماتهم ، لكن السلوك الذى نرغب فى رؤيته جميعا هو الرغبة فى تغيير عقولنا عند تقديم معلومات أفضل بدلاً من رفض تغيير خططنا أو أفكارنا ، خاصة عندما يحاول شخص ما إقناعنا بالقيام بذلك. وفى هذا الصدد أود أن القى الضوء على موضوع هام للغاية وهو مرتبط بالخوف المتزايد من الإشعاع الناتج من المحطات النووية.

الإشعاع عبارة عن طاقة ، والإشعاع المرتبط باستخدام الطاقة النووية ، إلى جانب الأشعة السينية ، هو إشعاع “مؤين” وإذا زادت شدته فيستطيع إتلاف الأنسجة الحية ، مما يعنى أن الإشعاع لديه طاقة كافية للتفاعل مع المادة ، خاصة جسم الإنسان ، وإنتاج أيونات ، أى أنه يمكن إخراج إلكترون من الذرة. الأشعة السينية اكتشفت عام 1895 والإنشطار النووى اكتشف عام 1939. والنسبة العظمى من الإشعاع التى يتعرض لها الانسان تأتى من مصادر طبيعية ، أما الإشعاع الناتج من المصادر الاصطناعية فالمساهم الرئيسى هو استخدام الإشعاع فى الطب ، ورغم أن المحطات النووية كمصدر للإشعاع تجد قدرا كبيرا من اهتمام الناس لكنها تشارك بنسبة ضئيلة جدا جدا وتكاد لا تذكر.

المواد المشعة والتى تصدر إشعاعا بشكل طبيعى هى جزء متأصل من بيئتنا المعيشية ، فنحن نعيش فى بحر من الإشعاع. فالإشعاع يحيط بنا من جميع الجوانب، فالأرض الى تحت أقدامنا والجدران الخرسانية وطوب الحوائط جميعها تصدر إشعاعات. كما اننا نتعرض للإشعاع من الفضاء الكونى فى كل مكان نتواجد فيه، ويختلف الإشعاع من مكان لمكان طبقا للتكوينات الجيولوجية للمكان، ويزداد الإشعاع كلما ارتفعنا عن سطح البحر ، فالتعرض للإشعاع على متن الطائرة يكون أعلى من على سطح البحر. ويطلق على الإشعاع الطبيعى اسم “إشعاع الخلفية الطبيعى”. والمستويات العالية نسبيا من إشعاع الخلفية الطبيعى يوجد فى دول مثل فنلندا وفى مناطق أخرى حول العالم.

امتلاك الإنسان لخمس حواس رئيسية، يعطيه القدرة على إدراك ما حوله من الأشياء، ويمنحه القدرة على التصرف فى الأمور – إلا الإشعاع – فإنه لا يدرك بالحواس الخمس. وأنا واحد من الناس ينتابنى خوف من التعرض للإشعاع ، وهذا الخوف متزايد بسبب عدم قدرتنا على إدراك الإشعاع بأى من الحواس الخمس أو إدراك مقدار الجرعة التى نتلقاها. إن نشر الخوف من الأسلحة النووية ليس عملاً ضارا ، لكن فى حالة حدوث حوادث للمحطات النووية فأنا لست معصوما من هذا الخوف.

لكن الشىء الذى لا يدركه الكثيرون هو أن داخل وحول المحطات النووية تجد اهتماما كبيرا للكشف عن الإشعاع وقياس مقداره. وبالنسبة للأشخاص الذين يحبون الاطلاع فأننى أحب أن أبلغهم بأن موقع المحطة النووية هو مكان آمن من الإشعاع ، ولو اتيحت لك الفرصة لزيارة محطة نووية فيمكنك قياس ومعرفة مستويات إشعاع الخلفية الطبيعى فى منطقة سكنك ثم قياسه داخل المحطة النووية ، كما يمكنك استخدام معدات قياس دقيقة لمراقبة تعرض جسمك للإشعاع جراء زيارتك للمحطة النووية.  والنتيجة التى توصلت اليها بعد زياراتى لعديد من المحطات النووية هى أن المحطة النووية أثناء تشغيلها أمنة أمنة ، لكن الخوف الذى ينتابنى هو من الإشعاع الناتج نتيجة حوادث المحطات النووية. فالكوارث الطبيعية هى ترويع للناس ، والحوادث النووية مخيفة ، لكن الخوف من الإشعاع يسبب الكثير من الضرر للناس.

على الرغم من أن مستوى الإشعاع أقل بكثير من المستويات التى سيكون لها تأثير على صحة الإنسان ، إلا أن المنظور العلمى ليس هو العدسة الوحيدة التى يمكن من خلالها رؤية هذه المسألة. وفى حين يتصارع المسؤولون وأصحاب المصلحة مع هذه القضايا المعقدة من منظورعام ، إلا أننا نجد أن العلم حين يقول أنها آمنة ، فهو يقوم بدراسات كثيرة متأنية منها ، ما تأثير انتشار المواد المشعة على الناس؟ ، وما تأثير ذلك على الرأى العام ؟ ، وهل ستتأثر ثقة الجمهور؟ ، وهل ستتأثر الصناعة والزراعة والصيد فى المنطقة؟ ، وهل سيكون هناك تمييز تجاه الناس والمنتجات الزراعية من المنطقة؟.

الرسائل المتضاربة التى تصدر من الحكومات والأكاديميين والصناعة النووية والمدافعون عن البيئة والمجموعات المناهضة للمحطات النووية تلعب دورا كبيرا فى انخفاض التقبل عند الرأى العام وانعدام الثقة على نطاق واسع. ويخبرنا العلماء أن مستويات الإشعاع المنخفضة ليست ضارة ، لكن السياسات المتعلقة بحدود الإشعاع لعامة الناس غير متناسقة. الاتصالات بحاجة إلى تحسين ، وهذا أمر لا يمكن إنكاره. يحتاج الجمهور إلى سماع معلومات متسقة ودقيقة حول أهمية الطاقة النووية بالنسبة لهم ، والأفضليات الكامنة فى كل مصدر من مصادر للطاقة ، والمخاطر الحقيقية التى تنطوى عليها اختياراتهم. معظم الناس يريدون أن يعرفوا أهمية الشئ المعروض عليهم ، ولماذا هذا الشئ مهم لهم قبل قضاء الوقت فى طرح الأسئلة حول كيفية عمله. لا يمكننا أن نتوقع أن يصبح الجمهور خبراء نوويين مميزين لمجرد توزيع ورقة سياسية عليهم، أو شخص ما وزع نشرة توضح تأثير الإشعاع ، أو أن بعض الناس أعلن أن المحطات النووية آمنة. وبناء على ذلك نستطيع أن نقول أن الصناعة النووية اكتسبت مكانة الخبراء فى إخافة الناس من المحطات النووية. فيكفينا أن نذكر فى هذا الصدد أن معايير الوقاية من الإشعاع تفترض أن أى جرعة إشعاع مهما كانت صغيرة ، تنطوى على خطر محتمل على صحة الإنسان، فهذا الافتراض المتحفظ عن عمد يزيد من خوف الناس ويشكك فى مصداقية المحطات النووية.

على الرغم من أن سوء الاتصالات قد أعاقت قبول العامة للطاقة النووية ، لكن الجناة الأكثر فظاعة فى هذا المجال هم الأفراد والمنظمات الذين نشروا معلومات خاطئة عمدا لغرض إثارة مخاوف العامة. ولا توجد طريقة لطيفة لتبرير هذا السلوك. فلن يقبل الجميع الطاقة النووية حتى عندما تتاح لهم المعلومات الصحيحة، ومن حقهم أن يكونوا قادرين على تكوين عقولهم الخاصة. ومع ذلك ، أعتقد أنه من حق الجمهور أيضا الحصول على معلومات دقيقة تستند إليها قراراته.

من الطبيعى أن يتعرض الانسان على كوكب الأرض للإشعاع الناتج من الطبيعة ، ومن البداية أحب أن أطمئن الناس وأقول “أن متوسط الجرعة السنوية من الإشعاع والتى يتعرض لها الشخص العادى هى 2.8 مللى سيفرت” و “أن مخاطر حدوث السرطان بجسم الانسان عندما تزيد الجرعة الإشعاعية السنوية التى يتعرض لها الشخص العادى عن 200 مللى سيفرت”. والسيفرت هى الوحدة الموزونة لقياس الجرعة الممتصة فى الأنسجة الحية ، وتستخدم فى وضع معايير الوقاية الإشعاعية ، وتأخذ بعين الاعتبار الآثار البيولوجية للأنواع المختلفة من الإشعاع وهى تشير إلى الجرعة المكافئة. والسيفرت مساوى 1000 مللى سيفرت.

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب : توحش المصلحجية

الصحة النفسية ….الرهاب الاجتماعى …حلقة 39

نحن نتعايش مع الإشعاع فى كل لحظة من حياتنا “من الميلاد حتى الممات” فبداخلنا يوجد إشعاع ومن خارجنا يحيط بنا الإشعاع. وهذا الإشعاع الذى نتعايش معه يسمى “إشعاع الخلفية الطبيعى” وهو الإشعاع المؤين الموجود في البيئة. وينشأ إشعاع الخلفية الطبيعى من مجموعة متنوعة من المصادر الطبيعية والاصطناعية. والمصادر الطبيعية للإشعاع هى الإشعاعى الداخلى والإشعاع الأرضى والإشعاع الكونى. وليس هناك الكثير الذى يمكن القيام به حيال الجرعة التى نتلقاها من إشعاع الخلفية الطبيعى.

هناك إشعاع طبيعى متواجد بداخلنا وخاصة فى العظام، فجميع الناس لديهم إشعاع داخل أجسامهم منذ الولادة ، وبشكل رئيسى من المواد المشعة مثل البوتاسيوم -40 والكربون -14. بالإضافة إلى ذلك ، هناك جرعات إشعاعية إضافية تأتى من الأكل والشرب وأستنشاق الهواء، فالماء يحتوى على كميات صغيرة من اليورانيوم المذاب والثوريوم ، وتحتوى كل المواد العضوية (سواء النباتية أو الحيوانية) على الكربون والبوتاسيوم المشع، حيث يتم تناول بعض هذه المواد مع الأكل والشرب. فى حين يتم استنشاق غاز الرادون المشع أثناء عملية التنفس الطبيعى، حيث يحتوى الهواء بشكل أساسى على غاز الرادون ، وهو المسؤول عن معظم الجرعات التى يتلقاها البشر كل عام من إشعاع الخلفية الطبيعى. غاز الرادون الموجود فى جو الأرض يتولد من التحلل التلقائى لليورانيوم -238 الموجود طبيعياً في صخور القشرة الأرضية.

الأرض نفسها هى مصدر الإشعاع الأرضى، حيث توجد مواد مشعة مثل اليورانيوم والثوريوم والراديوم والبوتاسيوم بشكل طبيعى في التربة وصخور القشرة الأرضية ، وهذه النظائر المشعة تبعث أنواعاً مختلفة من الإشعاع الذرى كجسيمات ألفا وبيتا وأشعة جاما ، ويبلغ متوسط الجرعة السنوية حوالى 0.5 مللى سيفرت. ولكن تختلف الجرعة فى أجزاء مختلفة من العالم. ونحن نقضى معظم وقتنا فى المنزل والعمل والمتاجر، وهو ما يطلق عليه “فى الداخل” بمعنى داخل المبنى أو داخل مكان مغلق. فالجرعة الإشعاعية التى نتلقاها “فى الداخل” أعلى بنحو خمس مرات من الجرعة التى نتلقاها فى الهواء الطلق “فى الخارج”. وتحتوى مواد البناء القائمة على الحجر، مثل الألواح الخرسانية والحجرية ، على أعلى تركيز للمواد المشعة. ففى داخل الغرفة نحن نتلقى إشعاعا من الجدران والأرضيات والسقف. وفى الهواء الطلق يأتى الإشعاع من التربة. هناك أماكن على الأرض يزداد فيها الإشعاع الأرضى الطبيعى بشكل كبير نتيجة وجود تركيزات عالية من العناصر المشعة طبيعياً في صخور القشرة الأرضية.

الإشعاع الكونى يأتى من الفضاء الخارجى والشمس، حيث ترسل الشمس والنجوم تيارا مستمرا من الإشعاع الكونى إلى الأرض ، يشبه إلى حد كبير رذاذ المطر المستمر. ويمكن أن تؤدى الاختلافات فى الارتفاع ، والظروف الجوية ، والمجال المغناطيسى للأرض إلى تغيير جرعة الإشعاع الكونى التي نتلقاها. ويبلغ متوسط جرعة الإشعاع الكونى التى نتعرض لها حوالى 0.4 مللى سيفرت سنوياً. وتزداد جرعة الإشعاع الكونى مع الصعود لأعلى بعيدا عن سطح البحر. فمدينة مكسيكو بالمكسيك ترتفع عن مستوى سطح البحر بمقدار كيلومترين ، وتبلغ جرعة الإشعاع الكونى للسكان فى هذه المدينة حوالى 0.8 مللى سيفرت سنوياً. وتبلغ الجرعة القصوى التى يتعرض لها طاقم الطائرة من الإشعاع الكونى حوالى 5 مللى سيفرت سنوياً.

وتتكون الأشعة الكونية من 87% من البروتونات و 11% من جسيمات ألفا ، وحوالى 1% من الإلكترونات ذات طاقة عالية جداً ، لذلك فإن لها قدرة كبيرة على التفاعل مع ذرات الغلاف الجوى مولدة اليكترونات سريعة وأشعة جاما ونيوترونات  . وليس هناك الكثير الذى يمكنك القيام به لحماية نفسك من الإشعاع الكونى ولكن شدتها على سطح الأرض تتباين من مكان لأخر.

جزء من الإشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس يعتبر إشعاعا مؤينا. وبالرغم من أهمية أشعة الشمس فوق البنفسجية فى إنتاج فيتامين د فى البشر، لكن الكثير من التعرض ينتج عنه حروق الشمس ، ويحتمل حدوث سرطان الجلد. أنسجة الجلد تتلف ، والضرر الذى يلحق بالحمض النووى DNA  قد لا يتم إصلاحه بشكل صحيح ، ومع مرور الوقت ، يتطور السرطان وقد يكون مميتًا.

إذا تكلمنا عن  المصادر الاصطناعية للإشعاع فهى كثيرة، فمنها ما هو ناتج عن الصناعة ، فهناك شركات ومصانع تستخدم المواد المشعة فى عملها ، ومنها ما هو ناتج عن الصناعات النووية وعن المحطات النووية وعن اختبارات الأسلحة النووية. وفى مجال الطب تستخدم المواد المشعة فى الكشف والتشخيص والفحص والعلاج الطبى ،فهناك علاج بالمواد المشعة وكشف بأشعة إكس.

وضحنا فيما سبق أن إشعاع الخلفية الطبيعى هو المصدر الرئيسى للأشعة التى يتعرض لها معظم الناس. ونجد أن مستويات الجرعة السنوية تتراوح عادة من بين 1.5 إلى 3.5 مللى سيفرت، ويمكن أن تكون أكثر من ذلك، فقد تصل الى 50 مللى سيفرت فى السنة. والمعروف أن أعلى مستوى من إشعاع الخلفية الطبيعى الذى يؤثر على عدد كبير من السكان (140 ألف شخص) هو فى ولايتى “كيرالا” و “مدراس” فى الهند حيث يتلقى الشخص جرعات متوسطها أكثر من 15 مللى سيفرت سنويًا من أشعة جاما بالإضافة إلى جرعة مماثلة من غاز الرادون. كما تحدث مستويات مماثلة فى البرازيل والسودان ، حيث يصل متوسط التعرض إلى حوالى 40 مللى سيفرت فى السنة للعديد من الناس. وهناك العديد من الأماكن المعروفة في إيران والهند وأوروبا حيث يعطى إشعاع الخلفية الطبيعى جرعة سنوية تزيد عن 50 مللى سيفرت وقد تصل إلى 260 مللى سيفرت فى السنة كما هو متواجد فى بعض الأماكن فى مدينة “رامسار” فى إيران على ساحل بحر قزوين. ومع ذلك، لا يوجد دليل على زيادة السرطان فى مدينة “رامسار” أو غيرها من المشاكل الصحية الناجمة عن هذه المستويات الطبيعية العالية.

ولو عرفنا أن متوسط الجرعة السنوية لإشعاع الخلفية الطبيعى حوالى 2.8 مللى سيفرت موزعة كالأتى : 1.2 مللى سيفرت من غاز الرادون ، 0.5 مللى سيفرت من الإشعاع الأرضى ، 0.4 مللى سيفرت من الإشعاع الكونى ، 0.3 مللى سيفرت من الأكل والشرب، 0.4 مللى سيفرت من الكشف الطبى ، 0.0002 مللى سيفرت من تشغيل المحطة النووية. وهذا يدل على أن جرعة الإشعاع السنوى من الأكل والشرب يزيد عن الإشعاع الناتج من تشغيل المحطة النووية بمقدار 1500 ضعف. والأقرب الى الذهن ، هو عندما نجد إن ملايين العمال فى الصناعات النووية والمحطات النووية وقد تمت مراقبتهم عن كثب منذ أكثرمن  60 عاماً لا يعانون من وفيات من السرطان أعلى من عامة الناس.

التعرض لمستويات عالية من الإشعاعات المؤينة ينطوى على خطر، فهل ينبغى لنا محاولة تجنبه بالكامل؟ حتى لو أردنا ذلك ، سيكون هذا مستحيلاً. الإشعاع موجود دائما فى البيئة وفى أجسامنا. ومع ذلك ، يمكننا ويجب علينا تقليل التعرض الغير ضرورى الى الإشعاع الذى هو من صنع الإنسان. والإشعاع يمكن اكتشافه بسهولة، فهناك مجموعة من الأدوات البسيطة والحساسة القادرة على كشف الكميات الضئيلة من الإشعاع الصادرة من المصادر الطبيعية ومن المصادر الاصطناعية.

وفقنا الله الى ما فيه الخير لشعب مصر ، والله الموفق.

 

اترك رد