مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

فضيلة الشيخ محمد عاشور يكتب “لكن الله يدري “

31

بقلم فضيلة الشيخ : محمدعاشور

إلى كل من قدّم جميلًا لمن لا يشكره، وكل من أسدى معروفًا لمن لم يحمده، وكل من أكرم لئيمًا، وكل من أحسّ بضياع جهده مع من لا يستحق، اقرأ هذه الكلمات:

عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ ؛ أَنَّهُ قَالَ لأَهْلِهِ : اصْنَعُوا لِي خَبِيصًا – حلواء مصنوعة من دقيق وتمر وسمن-، قَالَ : فَصَنَعُوا ، قَالَ : فَدَعَا رَجُلاً كَانَ بِهِ خَبَلٌ ، قَالَ : فَجَعَلَ الرَّبِيعُ يُلْقِمُهُ وَلُعَابُهُ يَسِيلُ ، فَلَمَّا أَكَلَ وَخَرَجَ ، قَالَتْ لَهُ أَهْلُهُ : تَكَلَّفْنَا وَصَنَعْنَا فِيهِ ، أَطْعَمْتَهُ ؟ مَا يَدْرِي هَذَا مَا أَكَلَ ، قَالَ الرَّبِيعُ : لَكِنَ اللَّهُ يَدْرِي.

لكن الله يدري…أغمض عينيك ورددها بهدوء أكثر من مرة بقلبك، اجعلها شعارًا لك في حياتك كلما أحسست بضياع جهدك وعدم تقديره،لكن الله يدري ما قدّمتَه من خير في كل مجال، في مجاهداتك لنفسك وشهواتها، في برّك بوالديك، في إحسانك لأهلك وولدك، في كفّك الأذى عن جيرانك وتحمله منهم، في صِلتك لرحمك، حتى وإن قابلوا إحسانك بالإساءة، قل: لكنّ الله يدري.

في تعبك من أجل أولادك ليلًا ونهارًا ثمّ قابلوك بالعقوق والأذى، قل: لكنّ الله يدري.

 

إن كنت مخلصًا في عملك، ولكنهم كافئوا غيرك ممن هو أقل منك في كل شيئ، بل قد ينسبوا خيرَك لغيرِك، وهذا كثير، وقتها قل: لكنّ الله يدري.

 

وهذا الشعار يعني أنّك لا تنتظر مقابلًا من أحد على عمل، بل تطلبه من الله وحده، من باب قوله تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9].

 

قد يهمك ايضاً:

تحليل سوات والحياة اليومية للمواطن

انور ابو الخير يكتب: لا شيء يستحق الحداد

وهذا يجعلنا نخلص العمل لوجه الله الكريم فهو الشكور سبحانه وتعالى، لا يضيع أجر من أحسن عملًا، والناس يضيعون، وما كان ربك نسيًا والناس ينسون، فاللبيب من خلّص العملَ مما سوى الله تعالى .

 

وأعود إلى بعض الصور المشرقة الرائعة لسلفنا الصالحين وكيف جعلوا كل عباداتهم خالصة لله، لا يرون إلا اللهَ – تعالى – رقيبًا عليهم، وهذا هو معنى الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، لم يهتموا بردود أفعال الناس، بل كانوا يراقبون الله في عملهم .

 

قال الشافعي: وددت أن الناس تعلّموا هذا العلم ولا ينسب إليّ شيء منه أبدًا؛ فأوجر عليه ولا يحمدوني.
وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته, ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به: “الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة.” فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك. لا يشغله إظهارهذا العلم بقدر ما يشغله إصلاحه لقلبه، وتخليص عمله مما سوى الله تعالى.

 

وتذكر كتب التاريخ قصة مسلمة بن عبد الملك، أحد أبطال الفتوحات في المشرق مع صاحب النقب، حيث حاصر مسلمة حصناً واستعصى على المسلمين فتحه، فندب الناس -أي أرشدهم ودلهم- إلى نَقْب منه، لعل أحدًا منهم يدخل منه ويقاتل في الداخل ويفتح أبواب الحصن للمسلمين، فما دخله أحد فجاء رجل من عُرض الجيش، فدخله ففتحه الله عليهم: فنادى مسلمة: “أين صاحب النّقب؟” فما جاء أحد. فنادى: “إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء”؛ فجاء رجل فقال: “استأذن لي على الأمير”. فقال له: “أنت صاحب النّقب؟” قال: “أنا أخبركم عنه”، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال: “إن صاحب النَّقب يأخذ عليكم ثلاثًا: ألا تُسَوِّدُوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه: ممن هو؟” قال مسلمة: “فذاك له”، قال: “أنا هو”. فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: “اللهم احشرني مع صاحب النَّقب”.

 

يقول ابن القيم رحمه الله: “إن الله إذا أراد بعبدٍ خيرًا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نُصْبَ عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقبِّل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره”.
وكان مورق العجلي يقول: ” ما أحِبُ أن يعرفَني بطاعَتِه غَيرُهُ “.

 

 

وعلى النقيض نرى من جمع بين القبيحين،يحب ويفرح بالثناء عليه بما ليس فيه، قال تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

 

 

ينبغي علينا أن نتّهم أنفسنا بالتقصير في نياتنا، وأن نعوّد أنفسنا على خفيّات الطاعات حتى تستقيم لنا النيات، كذلك لابد لنا من اختبار النفس بحيث تراقبها أثناء الطاعة منفردًا، كيف يكون حالها، ثم كيف تكون بين الناس، فمن حاسب نفسه في الدنيا وقف على عيوبها، وخفف الحساب عنها في الأخرة، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمدلله رب العالمين

فضيلة الشيخ : محمد عاشور
من علماء الازهر الشريف

اترك رد