مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

النهضة الحضارية والقوة الناعمة

بقلم الأستاذ الدكتور -هشام فخر الدين:

لا شك أن الحضارة المصرية تُعد من أقدم وأعظم الحضارات في التاريخ الإنساني، إذ امتدت جذورها لأكثر من سبعة آلاف عام، وقدّمت للعالم أسس الدولة والنظام والمعرفة والفن. وتميّزت مصر بقدرتها على المزج بين الاستقرار السياسي والابتكار الثقافي، فكانت مهد الكتابة والعمارة والفكر الديني والفلسفي. وقد ظلت منارةً للعلم والحكمة ومركزًا للتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب عبر العصور. وتمتلك مصر اليوم مكانة فريدة تستمدها من عراقة ماضيها وعمق تأثيرها في الوجدان الإنساني، مما يجعلها رمزًا خالداً للهوية والخلود والعبقرية الإنسانية.

ويُعدّ المتحف المصري الكبير أحد أبرز المشاريع الحضارية التي تجسّد طموح الدولة المصرية الحديثة في استعادة مكانتها التاريخية، وإعادة بناء صورتها الثقافية والسياسية على المستويين الداخلي والدولي. فهذا الصرح الفريد، القابع على مقربة من أهرامات الجيزة، ليس مجرد متحفاً يعرض آثاراً أو تحفاً فنية. إنما هو مشروع وطني شامل يعيد رسم العلاقة بين المصري وتاريخه، ويقدّم للعالم نموذجاً جديداً لمصر التي تستلهم ماضيها لبناء مستقبلها. إنّ افتتاح المتحف لم يكن حدثاً أثرياً فحسب، بل كان فعلًا رمزياً وسياسياً ونفسياً واجتماعياً يعكس إرادة الدولة في توظيف تراثها الحضاري كأداة من أدوات القوة الناعمة التي تُعيد تثبيت حضورها وتأثيرها في الساحة العالمية.

فــــــــــــــــــــــــــ منذ اللحظة الأولى لتصميم هذا المشروع، كان واضحاً أن الدولة المصرية لا تسعى إلى مجرد إنشاء مبنى ضخم أو استعراض لتراثها الفرعوني والحضارى، وإنما إلى صياغة خطاب حضاري جديد يعبر عن قدرتها على الجمع بين الأصالة والحداثة. فالمتحف بما يتضمنه من كنوز أثرية نادرة، وبما يتميز به من تصميم معماري حديث يجمع بين النور والحجر، يعكس روح مصر الممتدة في الزمن: حضارة قديمة بعيون عصرية. هذه الفكرة في جوهرها تمثل إعادة صياغة للهوية المصرية في صورتها الحديثة، إذ يتحول التراث من عبءٍ ماضوي إلى مصدر طاقة رمزية ومعنوية تُلهم الأجيال الجديدة وتُعيد للوجدان الجمعي إحساسه بالثقة والإنتماء.

ويمثل المتحف المصري الكبير على المستوى السياسي حدثاً استراتيجياً يدخل في إطار استخدام الثقافة كأداة من أدوات الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة. فالدول المعاصرة لم تعد تعتمد فقط على الجيوش أو الاقتصاد لتحقيق نفوذها، بل على قدرتها على الإقناع والجذب من خلال الثقافة والتاريخ والفن. ومن هذا المنظور يصبح المتحف رسالة مفتوحة إلى العالم مفادها أن مصر ما تزال قادرة على قيادة الحوار الحضاري الإنساني من موقعها التاريخي كأقدم دولة مركزية في العالم. وأنها تستخدم تراثها لا كـــــــــ أثرٍ منقرض بل كـــــــــ قوة حية تُعبّر عن استمرارها وقدرتها على التجدّد. وقد كان اختيار لحظة الافتتاح وحضور شخصيات دولية وإعلام عالمي مكثف جزءً من هذه الرؤية السياسية. حيث أرادت مصر بقيادتها الرشيدة أن تؤكد أنها بلد الاستقرار والنهضة الثقافية في منطقة مضطربة، وأنها قادرة على توظيف ماضيها كجسر للمستقبل لا كــــــــ ذكرى ساكنة.

قد يهمك ايضاً:

حين تُختطف الحقيقة: كيف تحوّلت مقولة “الإبداع يسبق النقد”…

من طرد الفرس إلى “رؤية 2040”: تأسيس الدولة…

غير أن الأثر الأعمق للمتحف لا يقتصر على السياسة والدبلوماسية، بل يمتد إلى البنية النفسية للمجتمع المصري. فالمتحف في وعي المصريين يُعدّ بمثابة استعادة رمزية لكرامتهم الحضارية بعد عقودٍ من الشعور بالتراجع والاغتراب عن تراثهم. وبالتالى فرؤية هذا الصرح الوطني الضخم، الذي يعرض كنوز الأجداد في قلب وطنهم وبأيدي علمائهم، تُعيد للمصري شعور الملكية الثقافية الذي سُلب منه جزئياً حين كانت معظم القطع الأثرية المصرية معروضة في متاحف أجنبية بعيدة عن سياقها الأصلي. بهذا المعنى يصبح المتحف تجربة نفسية جماعية تُعيد تعريف الذات الوطنية من خلال الفخر بالقدرة على الإنجاز، وتعزز الثقة في الحاضر عبر استحضار المجد التاريخي. وهذا الشعور بالفخر الجماعي يولّد ما يمكن تسميته بـ”الشفاء الرمزي”، إذ يُرمم الفجوة بين الماضي والحاضر، ويحوّل التاريخ إلى طاقة معنوية تُغذي روح الأمة وتزيد من تماسكها الداخلي.

ويرمز المتحف المصري الكبير اجتماعياً إلى مشروع وطني جامع تتقاطع فيه جهود الدولة والمجتمع والخبراء والعاملين في مختلف المجالات. فلقد وفر المشروع فرصاً ضخمة للعمل والإبداع، وأتاح تفاعلًا بين طبقات المجتمع حول رمزٍ موحّد يُعبّر عن “مصر ” التي تتجاوز الإنقسامات وتتوحد حول فكرة البناء والنهضة. فهذا التلاقي الاجتماعي حول رمز حضاري يحمل دلالة عميقة على أن التقدم الثقافي لا ينفصل عن التنمية المجتمعية، وأن بناء الذاكرة الجمعية هو أحد أشكال بناء الدولة الحديثة. وهكذا يصبح المتحف فضاءً يلتقي فيه التاريخ بالاجتماع، والماضي بالمستقبل، والفرد بالجماعة في تجربة واحدة من الوعي بالذات.

أما على الصعيد الدولي فإن المتحف يسهم في إعادة صياغة الصورة الذهنية لمصر لدى الرأي العام العالمي. فبعد سنواتٍ كانت تُختزل فيها صورة البلاد في مشاهد الاضطراب السياسي أو التحديات الاقتصادية، حيث يقدم صورة مغايرة قائمة على الإبداع والتنظيم والقدرة على الإنجاز. ولقد شكّل هذا الصرح عامل جذب إعلامي وثقافي ضخم أعاد لمصر مكانتها كمركز للحضارة في الشرق الأوسط وكقوة ثقافية مستقرة وفاعلة. وتمثل هذه الصورة الجديدة أحد أهم أشكال القوة الناعمة، إذ تُعيد لمصر حضورها الرمزي في المخيال العالمي، وتُحوّلها إلى مرجع حضاري يُلهِم العالم لا مجرد مقصد سياحي.

ومن زاوية أخرى نجد أن افتتاح المتحف يعد تجسيداً لسياسة الدولة في ربط التنمية الاقتصادية بالثقافة الوطنية. فالحدث يعكس رؤية شاملة تعتبر الهوية الثقافية جزءً من عملية التنمية وليست عنصراً ثانوياً فيها. وهكذا يندرج المتحف ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى بناء “نهضة متكاملة” تجمع بين البنية التحتية المادية والرمزية للدولة. وما تفعله مصر هنا هو تحويل تراثها إلى رأسمال رمزي واقتصادي في آنٍ واحد، أي تحويل التاريخ إلى مورد سياسي ونفسي واجتماعي يعزز الاستقرار ويعمّق الإحساس بالهوية والقدرة على الاستمرار.

فالمتحف المصري الكبير ليس مجرد مؤسسة ثقافية أو معمارية، بل هو نص وطني مفتوح يعبّر عن الوعي الجديد بالدولة المصرية وهويتها الحديثة. إنه شهادة على قدرة الأمة المصرية على تحويل الذاكرة إلى مشروع، والماضي إلى مستقبل، والرمز إلى رسالة سياسية ونفسية واجتماعية. فالمتحف يجسّد لحظة من لحظات النهوض الوطني التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، ليصبح إعلاناً صامتاً عن أن مصر برمزها التاريخي والحضاري ما تزال قادرة على أن تكون مركزاً للمعنى، وموئلًا للتاريخ الحي، ونقطة إلتقاء بين الإنسان وجذوره وبين الدولة وحلمها بالنهضة الدائمة. ويظل المتحف المصري الكبير بهذه الدلالات مجتمعة مرآة لروح مصر القديمة المتجددة، ومؤشراً حياً على صعود قوتها الناعمة في عالم يتنازع فيه الحضور الرمزي بقدر ما يتنازع فيه النفوذ المادي.