الشريف خالد الأبلج يكتب.. هل زار إبراهيم عليه السلام جنوب الجزيرة العربية والمناطق الواقعة مابين الطائف والباحة وعسير؟
كتب/ الشريف خالد الأبلج
تُعد سيرة نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام إحدى الركائز الكبرى في التاريخ الديني والإنساني، إذ تتقاطع عنده جذور الإيمان ومشروعات الهداية الأولى للبشر، وتتصل عبره الرسالات السماوية بخيطٍ من التوحيد الخالص.
فكل محطة في حياته كانت فصلًا من فصول الاختبار الإلهي ومسارًا يقود البشرية إلى نور الهداية. بين بابل ومصر والشام ووادي مكة، كان إبراهيم يتحرك في رحلة لم تكن جغرافية بقدر ما كانت روحية، يتنقل فيها حاملًا راية التوحيد في وجه الوثنية العاتية.
غير أن بعض الروايات المتداولة مؤخرًا – في أوساط غير علمية – ذهبت إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام قد يكون زار جنوب الجزيرة العربية، وتحديدًا المناطق جنوب الطائف والباحة وعسير، وهي روايات لا تقوم على دليل نصي موثوق ولا أثر علمي معتبر، وتتناقض مع مجمل ما ورد في النصوص القرآنية والمصادر التاريخية الكبرى.
وفي إطار تتبع هذه الفرضية، وجد أن خط سير الخليل كما ورد في النصوص القرآنية والروايات التاريخية الثابتة، ينسج خريطة واضحة المعالم لا تحتمل هذا الادعاء. فالمسار الإبراهيمي يبدأ من أرض الكلدانيين ببابل، حيث دعا قومه إلى عبادة الله وحده، ثم هاجر إلى أرض الشام ومعه النبي لوط عليه السلام، كما جاء في قوله تعالى:
«فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم».
ثم كانت له محطة في مصر، قبل أن تعود رحلته إلى قلب الجزيرة العربية، إلى وادي مكة المكرمة، حيث أسكن هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام امتثالًا لأمر الله، وقال في دعائه الخالد:
«ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم».
هذه الآية وحدها تكفي لتضع النقاط على الحروف، فهي تحمل وصفًا جغرافيًا دقيقًا لا ينطبق إلا على مكة، المدينة الجرداء التي لم يكن بها ماء ولا نبات قبل أن تفجر فيها عين زمزم. فالوادي الذي قصده إبراهيم عليه السلام لم يكن سوى بطحاء مكة القاحلة، لا أبها ولا الباحة ولا الطائف.
إن “الوادي غير ذي الزرع” الذي ذكره القرآن لا يمكن بأي حال أن يكون تلك المناطق الجبلية الخضراء التي تمتاز بالأمطار والينابيع والمزارع الكثيفة. الطائف والباحة كما وصفهما الجغرافيون العرب مدينتان من أكثر مدن الحجاز خصبًا واعتدالًا في المناخ، بينما مكة وادٍ رملي جاف تحيط به الجبال الصلبة من كل الجهات. من هنا يتضح أن الوصف القرآني الحاسم لا يترك مجالًا للالتباس أو الاجتهاد العاطفي.
وفي قراءتي لما أورده كبار المؤرخين، كابن إسحاق والطبري وابن كثير، لم أجد في أي مصدر موثوق إشارة واحدة إلى انتقال إبراهيم الخليل إلى جنوب الجزيرة أو إلى اليمن أو عسير. بل أجمعوا على أن مساره ظل مرتبطًا بمراكز حضارية كبرى على امتداد الهلال الخصيب، قبل أن يتجه جنوبًا إلى موقعٍ محدد ذي غاية دينية كبرى، هو الوادي الذي أصبح موضع الكعبة المشرفة.
ولم ترد في أي من النقوش أو المكتشفات الأثرية في مناطق الطائف والباحة وعسير شواهد دينية توحيدية تُنسب إلى العصر الإبراهيمي، بينما تتركز الآثار المتعلقة به في فلسطين والخليل ومكة المكرمة.
وقد وجدت في أعمال الدكتور جواد علي في موسوعته “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” ما يؤكد أن انتقال إبراهيم عليه السلام إلى مكة لم يكن صدفة، بل جزء من مخطط إلهي لتأسيس بيت العبادة الأول في قلب جزيرة العرب، بعيدًا عن مراكز الوثنية.
كما عرض الدكتور محمد علي الصلابي في دراسته عن “سيرة إبراهيم عليه السلام” تصورًا بديعًا يربط بين رمزية وادي مكة وصفاء التوحيد، فخلو المكان من الزرع والماء يعكس فلسفة الإيمان الإبراهيمي في أن التوحيد لا يحتاج مظاهر عمران، بل يبدأ من الصحراء الصامتة التي تشهد ميلاد الإيمان.
وتؤكد بحوث الجغرافيا التاريخية أن الطريق الذي سلكه إبراهيم الخليل من الشام إلى مكة مرّ عبر دروب الحجاز الشمالية، من تبوك إلى العُلا فمدائن صالح، ثم يثرب (المدينة المنورة)، ومنها إلى مكة، دون أن يمتد إلى أعماق الجنوب العربي.
هذا المسار هو ذاته الذي عُرف لاحقًا بطريق القوافل الكبرى بين الشام ومكة، وهو الطريق الذي حفظته كتب الجغرافيين كياقوت الحموي في “معجم البلدان” حين تحدث عن “دروب الحجاز” التي كانت تسلكها القوافل المتجهة من الشام إلى مكة مرورًا بالمدينة.
كما تؤكد أبحاث البروفيسور ريتشارد بوليت بجامعة كولومبيا أن الطريق التجاري المعروف باسم “طريق القوافل الكبرى” الممتد من دمشق إلى مكة عبر المدينة هو الأقرب تطابقًا مع المسار الإبراهيمي الوارد في النصوص، لأنه يتفادى الجبال الجنوبية الوعرة ويصل مباشرة بوادي مكة.
وفي إطار متابعتي للدراسات الحديثة، لفت نظري ما قدمه الباحث العربي الدكتور عبد الرحمن الأنصاري في دراساته بموقع “قرية الفاو”، شمال شرق الربع الخالي، حيث أشار إلى أن الشبكات التجارية ما قبل الإسلام في جنوب الجزيرة كانت تتركز على الموانئ لا الممرات الجبلية، مما يُضعف فرضية مرور إبراهيم عليه السلام عبر عسير أو أبها.
ويضيف الباحث الأجنبي ريتشارد دبليو بوليت في كتابه The Camel and the Wheel تحليلًا لنظام القوافل الإبلية، موضحًا أن شبكات النقل البري قبل القرن السادس الميلادي كانت مستقرة في المناطق السهلية الممتدة بين الشام ومكة، مما يدعم فرضية أن إبراهيم سلك طريقًا ممهَّدًا للحركة التجارية وليس المسالك الجبلية الوعرة.
وفي دراسة حديثة نُشرت في مجلة MDPI بعنوان In Search of Ancient Pre-Roman Imperial Roads، كشفت الأبحاث باستخدام تقنيات الاستشعار عن بُعد عن مسار تاريخي يُعرف بـ«نقب سفاى» في جنوب بلاد الشام، يمتد من الكرك إلى اللسان، عليه بقايا أبراج مراقبة، مما يدل على أنه كان طريقًا مستخدمًا لنقل البضائع والبشر من الشام إلى الحجاز، لا من الجنوب نحو عسير.
هذه المعطيات الميدانية والتكنولوجية الحديثة تُعيد رسم خريطة الرحلة الإبراهيمية ضمن إطار واقعي وعلمي متين، وتؤكد أن المسار المنطقي هو الذي يبدأ من بلاد الرافدين مرورًا بالشام ومصر، ثم وادي مكة، متسقًا مع اتجاهات القوافل الحضارية آنذاك.
لقد بدأت رحلة الخليل من مدينة “أور الكلدانيين” جنوب العراق، وهي المدينة التي كشفت بعثات التنقيب البريطانية في القرن العشرين عن أطلالها ضمن موقع “تل المقيّر” قرب الناصرية، حيث وُجدت نقوش سومرية وأكدية تشير إلى جماعة موحِّدة في تلك الحقبة، بما ينسجم مع بدايات الدعوة الإبراهيمية.
ومن هناك، اتجه شمالًا إلى حرّان بأعالي الفرات، وهي محطة أكّدها القرآن والتوراة معًا، إذ أقام فيها فترة طويلة يدعو إلى التوحيد قبل أن يُؤمر بالهجرة مجددًا، ثم سار إلى أرض الكنعانيين بفلسطين، إلى الخليل (حبرون) تحديدًا، التي لا تزال تُعرف إلى اليوم باسمه، وفيها أقام المذبح وبنى بيت العبادة الأول، كما أشار ابن كثير في “البداية والنهاية”.
ومن الشام نزل إلى مصر، ثم عاد منها إلى الشام ومعه هاجر، قبل أن يتوجه إلى الجنوب عبر دروب الحجاز حتى وصل إلى وادي مكة، ليضع أول أساس للتاريخ المقدس في الجزيرة العربية.
لقد تتبعت المسار كله، فوجدت أن إبراهيم عليه السلام تحرك ضمن شبكة حضارية واضحة، لا تخرج عن نطاق المراكز المعروفة آنذاك في الشرق الأدنى القديم.
الطرق التجارية كانت تمر بمحاذاة الحجاز الأوسط، ولم تتجه إلى الجنوب الغربي الجبلي الذي تقع فيه أبها والطائف. وتقاليد الحج والنسك التي أرساها الخليل لم تُعرف إلا في مكة، ما يجعل الحدث التأسيسي للدين الإبراهيمي مرتبطًا بمكة وحدها.
وإذا كان بعض الناس يميلون إلى ربط الأماكن المقدسة بالأنبياء والأولياء، فإن هذه النزعة المفهومة نفسيًا واجتماعيًا لا ينبغي أن تُعتمد تاريخيًا. فالدراسات الأنثروبولوجية تشير إلى أن المجتمعات ذات الذاكرة الشفوية تميل إلى تحويل القصص المتوارثة إلى رموز مقدسة بمرور الزمن، حتى ولو خلت من الأدلة.
لذلك، كان لزامًا على المؤرخين العرب والمسلمين أن يعيدوا قراءة السيرة الإبراهيمية بعين نقدية تستند إلى النص القرآني والمصادر الموثقة لا إلى الحكايات المتخيلة واصطناع تاريخ لا وجود له ولا يثبت، فإبراهيم لم يكن رحالة بلا وجهة، بل نبيًّا يقود الوحي الإنساني نحو بيتٍ جعله الله قيامًا للناس.
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، كان يرسم بيديه لحظة التأسيس الكبرى لعقيدة التوحيد. ومن مكة، لا من غيرها، انطلقت الرسالة التي أكملها محمد صلى الله عليه وسلم، فصار واديها هو المركز الأبدي للنور، مهوى القلوب، ومبتدأ التاريخ الديني الإنساني.
إن الادعاءات التي تزعم أن إبراهيم الخليل زار الطائف أو الباحة وأبها ليست إلا ظنونًا وتخيلات تفتقر إلى السند النصي والعقلي. فكل الدلائل النقلية والجغرافية والعلمية تؤكد أن الخليل لم يزر الجنوب العربي، وأن الوادي الذي أسكن فيه ذريته هو مكة وحدها، بوصفها رمز التوحيد وبذرة الرسالة الخاتمة.
بهذا المعنى، لا تبدو رحلة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مجرد مسار في الجغرافيا، بل رحلة في الوعي الإنساني ذاته.
من بابل إلى مكة، ومن النار إلى النور، كانت خطواته تأسيسًا لمفهوم الإيمان الذي لا تحدّه أرض، ولا تحجبه الجبال. وبهذا تبقى مكة لا أبها ولا الطائف موضع النداء الأول الذي صدح في الوادي الجاف: وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا.
أن هذا الخط الجغرافي التاريخي من العراق إلى الشام فالمدينة فمكة يتسق مع ما ورد في سجلات الجغرافيا القديمة، ومع طبيعة الطرق التجارية التي كانت تستخدمها القوافل من الشمال إلى الجنوب، وهو ما أشار إليه الباحث إبراهيم صليبه في دراسته “الطرق القديمة للحج والتجارة في جزيرة العرب”، حيث أكد أن المسار الديني والتاريخي لإبراهيم عليه السلام يتطابق مع طريق القوافل النبطية الذي يمر بالمدينة وينحدر إلى مكة دون انحراف نحو الجنوب الغربي حيث تقع أبها وعسير.
وفي السياق ذاته، أشار الباحث أحمد داود في كتابه “دراسات في تاريخ شبه الجزيرة العربية” إلى أن الدراسات المقارنة بين النصوص القرآنية والجغرافيا القديمة توضح أن وادي مكة وحده يمتلك الصفات المكانية التي تذكرها النصوص الإبراهيمية، وأن الطائف وأبها – رغم أهميتهما الجغرافية – لم تكونا يومًا محطات وحي أو عبادة في المسار الإبراهيمي.
