مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

محمد منذر يكتب «العولمة والتجارة والعنف الاقتصادي»

ملامح أزمة عالمية تلوح في الأفق

بقلم :محمد منذر ورد

في عالم يتقاطع فيه الاقتصاد بالسياسة وتتشابك فيه المصالح بالتحديات، لم يعد ممكناً النظر إلى الأسواق العالمية بمعزل عن الأحداث السياسية والتحولات الجيوستراتيجية التي تعصف بالكوكب. فالعولمة التي وُلدت في أواخر القرن العشرين كمنظومة لتوسيع التجارة وتحرير الأسواق وخلق سلاسل إنتاج عابرة للحدود، باتت اليوم على المحكّ. يكشف نص اقتصادي معمّق أعدّه الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري، عن صورة بانورامية لعالم يتجه بسرعة نحو تغيّرات جذرية، حيث تتلاقى أزمة الديون الأميركية، والحروب التجارية بين واشنطن وبكين، وصعود التكتلات الجديدة مثل البريكس، مع تنامي ظواهر العنف الاقتصادي التي تطال الأفراد والمجتمعات على حد سواء.

التحذيرات التي أطلقها الخبير المالي والكاتب الشهير روبرت كيوساكي، مؤلف كتاب “الأب الغني والأب الفقير”، تعكس عمق المخاوف من “كساد أعظم” يهدد الاقتصاد الأميركي والعالمي. فالمؤشرات التي تتحدث عن مستويات غير مسبوقة من ديون بطاقات الائتمان في الولايات المتحدة، وتراجع خطط التقاعد، وارتفاع نسب البطالة، كلّها إشارات على هشاشة البنية الاقتصادية التي طالما قُدمت بوصفها الأقوى في العالم. كيوساكي لا يكتفي بالتحذير بل يذهب أبعد من ذلك، ليؤكد أن الانهيار الذي طالما تنبأ به بات وشيكاً، داعياً إلى الاستثمار في الذهب والفضة والعملات الرقمية، وعلى رأسها “بيتكوين”، باعتبارها الملاذ الآمن في زمن الاضطراب. يرى أن هذه الأدوات ليست فقط وسيلة للحماية من التضخم، بل فرصة لتحقيق ثروة في ظل انهيار الأنظمة المالية التقليدية.

ومن الضفة الأخرى، يظهر الملياردير راي داليو، مؤسس أكبر صندوق تحوط في العالم “بريدج ووتر”، ليضع إصبعه على الجرح: إن العالم يعيش مرحلة انتقالية من نظام متعدد الأطراف إلى نظام أحادي الجانب يهيمن عليه التوتر والصراعات. بالنسبة له، فإن السياسات الاقتصادية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خصوصاً فرض الرسوم الجمركية والانسحاب من التوافقات الدولية، خلقت حالة من الاضطراب العالمي، وأدت إلى تدمير قواعد التبادل التجاري التي تأسست منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. داليو يحذر من أن هذه الاضطرابات، إن لم تُعالج، قد تقود إلى كارثة مالية أكبر من أي ركود شهده العالم الحديث. هو يرى أن المسألة ليست مجرد خلاف تجاري بين قوتين، بل هي إعادة صياغة كاملة للهندسة الاقتصادية الدولية، حيث المال ذاته أصبح على المحك، وقيمة الدولار مهددة بالانكماش في ظل تزايد الدعوات لاستخدام العملات الوطنية أو إنشاء عملات بديلة في التبادلات التجارية.

في هذا السياق، يلعب النفط دوره كعامل مضاعف للأزمة. فالتقارير تشير إلى أن أسعار النفط ارتفعت مدفوعة بالإعفاءات الجمركية الأميركية ونمو واردات الصين، إلا أن هذه المكاسب تبقى محدودة بفعل المخاوف من تباطؤ النمو العالمي. فالحرب التجارية بين واشنطن وبكين لا تؤثر فقط على حجم التبادل التجاري المباشر، بل تنعكس على سلاسل الإمداد العالمية، وتزيد من حالة الضبابية التي تحيط بأسواق الطاقة. النفط، الذي لطالما كان شريان الحياة للاقتصاد العالمي، بات اليوم مرآة تعكس هشاشة النظام التجاري الدولي وتحوّلاته السريعة.

وسط هذه الاضطرابات، يطفو على السطح سؤال جوهري: هل نحن على أعتاب نهاية العولمة كما نعرفها؟ لقد ارتبط مفهوم العولمة لسنوات بزيادة الإنتاجية، وخفض التكاليف، وفتح الأسواق أمام الشركات متعددة الجنسيات. لكن التصعيد المستمر بين الولايات المتحدة والصين، وعودة الحمائية التجارية، وتنامي الدعوات إلى الاعتماد على الإنتاج المحلي، كلّها عوامل تشير إلى أن العالم يتجه نحو مرحلة جديدة من الانقسام الاقتصادي. بعض المحللين يرون أن العولمة لم تنتهِ تماماً، لكنها بصدد إعادة تشكيل ذاتها وفق معادلات جديدة تفرضها موازين القوى. فظهور تكتلات مثل “البريكس” يعكس رغبة الدول الصاعدة في خلق بدائل للنظام الاقتصادي العالمي القائم على هيمنة الدولار، ومحاولة صياغة نظام أكثر تعددية وعدلاً في توزيع النفوذ.

ولعل الحديث عن “البريكس” يفتح الباب أمام تحوّلات لا تقل خطورة. فهذه المجموعة التي تضم الصين، روسيا، الهند، البرازيل، وجنوب أفريقيا، توسعت لتشمل دولاً جديدة مثل الإمارات ومصر وإيران، لتشكّل ثِقلاً اقتصادياً لا يمكن تجاهله. تمتلك هذه الدول أكثر من 40% من سكان العالم، ونصف احتياطيات النفط المؤكدة، وحصة ضخمة من احتياطيات الغاز. هذا التكتل لم يعد مجرد إطار للتعاون بين دول ناشئة، بل مشروعاً اقتصادياً متكاملاً يسعى لتقويض أحادية النظام الدولي. التوجه نحو استخدام العملات المحلية، والحديث عن إطلاق عملة مشتركة للبريكس، كلها إشارات إلى رغبة متصاعدة في تقليص الاعتماد على الدولار الأميركي. وإذا تحقق ذلك، فإننا أمام مشهد اقتصادي عالمي جديد قد يُعيد رسم خريطة النفوذ لعقود قادمة.

قد يهمك ايضاً:

” بيت الرعب والتعذيب معتقل المرضى النفسيين “

الإعلامية هدير عبدالعظيم تكتب “الهجرة والعقول الشابة:…

لكن الأزمات لا تقتصر على المعادلات الكبرى بين الدول. فالنص يتوقف مطولاً عند مفهوم “العنف الاقتصادي”، باعتباره شكلاً خفياً وخطيراً من أشكال السيطرة. العنف الاقتصادي يعني حرمان الأفراد من مواردهم المالية أو السيطرة عليها، ما يؤدي إلى تبعية مادية تمنعهم من الاستقلالية. قد يظهر ذلك في أسر تمنع أحد أفرادها من استخدام أمواله بحرية، أو في مجتمعات تُحرم من حقها في التنمية بفعل سياسات احتكارية. هذا النوع من العنف لا يُقاس بالأرقام والإحصاءات وحدها، لكنه يترك آثاراً عميقة على النسيج الاجتماعي، ويقوّض إمكانات النمو المستدام. يشدد النص على أن مواجهة العنف الاقتصادي تبدأ بالوعي بالحقوق وبناء سياسات تعزز الاستقلالية المالية وتكافؤ الفرص.

وبينما تتأرجح الأسواق بين الخوف والاضطراب، يعود الذهب ليحتل مركز الصدارة كملاذ استراتيجي. النص يقدّم دليلاً شاملاً للاستثمار في الذهب، مبرزاً أنه ليس مجرد معدن ثمين، بل أداة للتحوط ضد التضخم وحماية رأس المال في أوقات الأزمات. ويعرض أشكال الاستثمار المختلفة: من شراء السبائك والليرات الذهبية، إلى صناديق الاستثمار، وأسهم شركات التعدين، والعقود الآجلة. ويوضح أن لكل وسيلة مزاياها ومخاطرها، لكن القاعدة الذهبية تبقى في وضوح الهدف الاستثماري: هل يسعى المستثمر لحفظ القيمة أم لتحقيق أرباح سريعة؟ فالتنويع ومتابعة التطورات الاقتصادية تبقى عناصر أساسية لنجاح أي خطة استثمارية.

الذهب بالنسبة لكثير من المحللين ليس مجرد أداة مالية، بل رمز للثقة في زمن تتهاوى فيه العملات الورقية تحت ضغط التضخم والديون. والتوقعات التي تشير إلى إمكانية وصول أونصة الذهب إلى مستويات قياسية خلال السنوات المقبلة، تجعل منه أداة أكثر جاذبية. في المقابل، يشير النص إلى أن العملات الرقمية، وعلى رأسها “بيتكوين”، قد تفرض نفسها كبدائل مستقبلية، خصوصاً مع تبنيها من قبل مؤسسات مالية كبرى ودول تبحث عن تحرر من هيمنة الدولار.

ومع كل هذه التحولات، يظل السؤال الأساسي: ما الذي ينتظر العالم في العقد المقبل؟ الحقيقة أن الإجابة ليست سهلة، فالعالم يقف عند مفترق طرق حاسم. السيناريو الأول، أن نشهد مزيداً من الانقسام والتوتر، حيث تتحول الحرب التجارية بين أميركا والصين إلى صراع شامل يعيد تشكيل النظام الدولي. السيناريو الثاني، أن تتمكن التكتلات الصاعدة من فرض نظام أكثر توازناً يخفف من هيمنة الدولار ويعزز من استخدام العملات الوطنية، ما قد يخلق نظاماً اقتصادياً متعدد الأقطاب. أما السيناريو الثالث، وهو الأكثر تفاؤلاً، فيتمثل في العودة إلى التعاون الدولي وإصلاح النظام التجاري بما يضمن عدالة أكبر واستقراراً طويل الأمد.

في جميع الأحوال، يوضح النص أن الأزمات ليست قدراً محتوماً، بل يمكن أن تتحول إلى فرص. فبينما تعيش بعض الاقتصادات حالة من الذعر، قد تنجح أخرى في استغلال الفوضى لتعزيز مكانتها وبناء نماذج جديدة للتنمية. والتاريخ يثبت أن الأزمات الكبرى كثيراً ما كانت منطلقاً لتحولات إيجابية على المدى الطويل، بشرط أن تمتلك الدول القدرة على التكيّف والابتكار.

إن هذا الطرح لا يكتفي برصد الأرقام والاتجاهات، بل يدعو إلى قراءة أعمق لمفهوم العولمة والتجارة والعنف الاقتصادي. فهو يذكّر بأن الاقتصاد ليس مجرد معادلات مالية، بل شبكة معقدة من العلاقات الإنسانية والسياسية والاجتماعية. وأن أي انهيار في هذه الشبكة لا ينعكس فقط على البورصات وأسواق النفط، بل على حياة الناس اليومية، من قدرة الأسرة على شراء طعامها، إلى مستقبل العامل الذي يخسر وظيفته، والمجتمع الذي يُحرم من فرص التنمية.

في النهاية، العالم اليوم أمام لحظة فارقة. العولمة كما عرفناها تتفكك، والتجارة الدولية تعيد تشكيل نفسها تحت وطأة الحروب الاقتصادية، والعنف الاقتصادي يترك جروحاً صامتة في جسد المجتمعات. وبينما يلوح في الأفق نظام اقتصادي جديد، يبقى التحدي الأكبر هو القدرة على التوازن بين المصالح الوطنية والالتزامات الدولية، وبين حماية الأفراد من العنف الاقتصادي وتوفير بيئة تتيح لهم حياة كريمة ومستقلة. وإذا كان الذهب هو الملاذ الآمن في زمن الأزمات، فإن الوعي الاقتصادي هو الملاذ الأهم لمستقبل أكثر استقراراً وإنصافاً .