بقلم :هدير عبدالعظيم
لم تعد الهجرة اليوم مجرد تذكرة سفر أو قرار فردي، بل صارت ظاهرة تكاد تُشكّل ملامح جيل كامل. في المقاهي، وعلى رصيف الجامعات، وفي أحاديث العائلات، يتردّد السؤال نفسه كأنه هاجس لا يهدأ: «مستقبلنا هنا… ولا برّه؟»
الهجرة بالنسبة للشباب المصري ليست فقط طموحًا ماديًا أو بحثًا عن راتب أكبر؛ بل هي معركة وجودية مع سؤال أعمق: أين أحقق ذاتي؟ فالشاب الذي يُغادر أرضه، يترك خلفه جدران بيت حمل أحلامه، ووجوهًا اعتادت صوته، لكنه يحمل في حقيبته عقلًا صُقل بالتعليم، وروحًا تُفتّش عن أفقٍ أوسع. وهنا تبرز المفارقة: الوطن الذي أنفق على تنشئة العقول، لم يستطع أن يوفر لها المناخ الذي يضمن بقاءها.
خذ مثلًا «محمود» خريج الهندسة، الذي ظل يطرق أبواب الشركات المحلية لأشهر دون جدوى، حتى اضطر إلى قبول عقد في إحدى دول الخليج. وبعد سنوات، حين عاد في زيارة قصيرة، قال بمرارة: «أنا كنت أتمنى أخدم بلدي، بس بلدي ما أدتنيش فرصة أبدأ». وفي المقابل، هناك «نهى» ابنة حي شعبي بالقاهرة، التي رفضت إغراء السفر، وأصرت أن تبدأ مشروعها الصغير هنا. واجهت عراقيل البيروقراطية وصعوبة التمويل، لكنها اليوم صاحبة علامة تجارية يعرفها آلاف على وسائل التواصل. قصتها تُثبت أن الطريق هنا أصعب، لكنه ليس مستحيلًا.
الهجرة ليست خطيئة، بل أحيانًا ضرورة؛ فالتجربة في الخارج قد تُكسب الشاب خبرة، وتفتح له أبوابًا للعلم والثقافة، وتجعله يكتشف ذاته من جديد. لكن الخطر أن تتحول مصر إلى مجرد محطة «انطلاق» للعقول، لا «حاضنة» لها. فالمجتمع الذي يُصدّر أفضل طاقاته دون أن يستثمرها، يفقد تدريجيًا قدرته على التجدّد.
القضية إذن ليست: هل نسافر أم لا؟ بل الأعمق: لماذا يضطر الشاب أن يرى الخلاص في مكان آخر؟ والإجابة لا تحتاج إلى كثير من الجدل: الشباب يريد وطنًا يضمن له فرصة عمل كريمة، تعليمًا يواكب العصر، وعدالة اجتماعية تُشعره أنه شريك حقيقي في صناعة المستقبل.
قد يسافر الجسد بعيدًا، لكن الوطن الحقيقي يسكن في القلب والذاكرة. وما بين مطار يلوّح بالرحيل، وشارع ضيق في حارة مصرية يعج بالحياة، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل الهجرة خلاصٌ من واقعٍ مأزوم، أم هي اعتراف ضمني بأننا لم ننجح بعد في صناعة وطن يليق بأحلامنا؟
ربما الحقيقة أن الهجرة ليست هروبًا من الوطن، بقدر ما هي صرخة تقول:
«اصنعوا لنا وطنًا… نشتاق أن نبقى فيه».