بقلم الأستاذ الدكتورـ هشام فخر الدين
ما أشبه اليوم بالبارحة فمنذ عقود طويلة يشهد العالم صراعاً مستمراً بين الفلسطينيين أصحاب الأرض والحضارة والتاريخ، وبين المحتل الصهيونى المغتصب للأرض والمعتدى والمدعوم من راعى الإرهاب والقتل العالمى والمسمى بأمريكا، تلك الدولة التى لا تمتلك تاريخ ولا حضارة فهى الأخرى مغتصبة للأرض وتاريخها دموى فى قتل وإبادة الهنود أصحاب الأرض الأصليين. ولم تكتفى بذلك بل رسخت فى العقول عبر آلياتها الإعلامية أن الهنود عصابات وإبادتهم مشروعة.
فــــــــــ عبر مسار التاريخ الحديث، شهد العالم نماذج متعددة من سياسات الإقصاء والاقتلاع والتهجير القسري التي مورست بحق شعوب أصلية أو مجموعات سكانية متجذرة في أرضها. من أبرز هذه النماذج، ما جرى للسكان الأصليين في أمريكا الشمالية على يد المستوطنين الأوروبيين المدعومين من السلطة الاستعمارية الناشئة، وما يجري منذ أكثر من سبعة عقود للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، في سياق مشروع استيطاني.
فـــــــــ يشترك النموذجان الأمريكي والإسرائيلي في كونهما مشروعين استيطانيين إحلاليين، أي أنهما لا يسعيان فقط إلى السيطرة السياسية، بل إلى “إحلال” سكان جدد محل السكان الأصليين، ونزع الشرعية التاريخية والرمزية عن وجودهم. وذلك باغتصاب أرضاً ليست ملكاً لهم، بالاعتماد على سياسات تهجير ممنهج، ومصادرة أراضٍ، وهدم قرى، وتقسيم جغرافي محكم، غبر القتل والترويع والإرهاب والتشريد مدعومة بحماية راعية الارهاب والقتل أمريكا.
وفي كلا الحالتين جرى بناء صورة نمطية مشوهة عن السكان الأصليين لتبرير السياسات العدوانية تجاههم.
ففي أمريكا تم تصوير “الهنود الحمر” في الخطاب السياسي والثقافي كهمج، غير متحضرين، خطرين على التقدم والاستقرار. وقد شُيِّدت هذه الصورة بعناية في المدارس، والسينما، وحتى في القصص الدينية التي ربطت بين المهمة “الربانية” للمستوطنين وضرورة التخلص من الوثنية. أما في حالة المحتل الإسرائيلي، فقد رُسمت صورة نمطية للفلسطينيين كإرهابيين، غير عقلانيين، غير راغبين بالسلام، حتى بات هذا الخطاب شائعاً في الإعلام الغربي والسياسة الأمريكية. وهو خطاب يسمح بتبرير القتل والقصف، والحصار، والاعتقالات الجماعية، وكأنه “دفاع عن النفس” لا ممارسة استعمارية استطانية شيطانية وهذا واقع وحقيقة المحتل. وفي كلتا الحالتين تصبح عملية “نزع الإنسانية” عن الآخر هي المدخل النفسي لتبرير سياسات لا إنسانية ، لا أخلاقية ، لا دينية وإنما سياسات استعمارية إمبريالية بحتة.
فهناك أدوات مشتركة للإبادة والتهجير، ففى في أمريكا، قد مورست الإبادة الجماعية المباشرة في العديد من المراحل، أشهرها “مجزرة الرمال الدامية” و”الطريق الدامي”، حيث تم تهجير الآلاف من قبائل الشيروكي والتشكتاو وغيرهم، قسراً من أراضيهم، في ظروف أدت إلى إبادة آلاف من الأطفال والنساء والمرضى.
كما استخدمت السلطات الأمريكية أدوات غير مباشرة، مثل نشر الأوبئة عبر الأغطية المصابة بالجدري، والتجويع، والتجريد من الموارد، ثم لاحقاً سياسة “دمج قسري” عبر إرسال الأطفال الأصليين إلى مدارس داخلية لنزع لغتهم وثقافتهم. أما في السياق الفلسطيني فقد مارس المحتل الصهيونى القتل والإبادة للتهجير الجماعي في نكبة 1948، تلاه طرداً عبر الابادة في نكسة 1967، وبقيت السياسة قائمة على القتل لتوسيع المستوطنات، وهدم المنازل، وسحب الهويات، وحصار المدن والقرى، وفرض قيود حركة دائمة. كما استخدمت الحروب المتكررة على غزة، والسياسات الأمنية في الضفة، كوسائل لفرض واقع نفسي دائم من التهديد والبقاء على الحافة. ففي كلا السياقين، كان السلاح النفسي جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية التصفية الجماعية والجغرافية والرمزية.
غير أن المشهد في السنوات الأخيرة اتخذ أبعاداً أكثر تعقيداً وعمقاً، لا سيما فيما يتعلق باستخدام أدوات نفسية شديدة التأثير، مثل التجويع الجماعي والترهيب المنهجي، كوسائل لإخضاع المجتمع الفلسطيني الوطنى صاحب الأض ولكنه أعزل. ومن منظور نفسى يُعد التجويع والترهيب شكلين من أشكال “الضغط النفسي القسري، يُستخدمان ليس فقط لكسر الإرادة الفردية، بل لتفكيك الروابط الاجتماعية داخل المجتمعات المستهدفة. فالتجويع لا يقتصر على قطع الإمدادات الغذائية أو الأساسية، بل يمتد ليصبح استراتيجية ممنهجة لإذلال الجماعة وسلبها الشعور بالسيطرة على المصير. أما الترهيب سواء عبر القصف أو المداهمات الليلية أو سياسات الهدم والاعتقال ـ فهو يمثل رسالة دائمة: “أنتم معرضون للفقد في كل لحظة”. وهذان الأسلوبان يُستمدان من ما يُعرف في الأدبيات النفسية بنظرية “التعلم المكتسب للعجز، وهي حالة نفسية يشعر فيها الأفراد بعدم جدوى المقاومة، نتيجة تكرار المعاناة دون إمكانية واقعية لتغيير الظروف. بمرور الوقت قد يؤدي ذلك إلى تآكل الثقة بالنفس وبالمجتمع، بل وبالقيم الكبرى مثل العدالة أو المستقبل وهذا ما يسعى إليه المحتل الصهيونى.
إن آثار التجويع والترهيب والقتل النفسى قبل العمد، لا تنعكس فقط على سلوك الأفراد في لحظة الأزمة، بل تمتد إلى تشكيل المزاج الجمعي والسلوك السياسي، وحتى القيم الثقافية والاجتماعية. ففي المجتمعات التي تُجبر على العيش تحت الحصار أو التهديد الدائم، تظهر أعراض واضحة لما يُعرف بـ”الصدمة الجمعية المزمنة. والتى تشمل انعدام الثقة في الآخر، ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق، هشاشة الهوية الاجتماعية، وصعود السرديات القائمة على الصمود بدلاً من التطور. كما تظهر أنماط تربوية صارمة أو مليئة بالخوف، ونظرة تشاؤمية إلى المستقبل، ونكوص قيمي في بعض الحالات، نتيجة الإحساس بأن الأخلاق لم تحمِ أصحابها من العنف والقتل. وقد بيّنت دراسات عديدة أجراها باحثون في علم النفس الاجتماعي في مناطق النزاع، أن الأطفال الذين ينشأون تحت ظروف القمع المزمن والقتل والإبادة، يصبحون أكثر عرضة لتبني وجهات نظر راديكالية أو حتى عدمية، نتيجة شعورهم بأن العالم يدار بمنطق القوة لا العدالة.
ولا يكتمل التحليل النفسي دون مساءلة البنية النفسية للفاعل ذاته، أي صانع القرار السياسي أو النظام الذي يعتمد على مثل هذه السياسات. تشير نظريات علم النفس السياسي إلى أن استخدام التجويع والترهيب لا ينبع فقط من رغبة في السيطرة، بل في كثير من الأحيان من خوف دفين من فقدان تلك السيطرة. وبالرغم من حدة هذه السياسات، فإن المجتمعات التي تتعرض لها لا تبقى دائماً ضحية سلبية. ففي علم النفس الاجتماعي، هناك ما يُعرف بــــــــــــ المرونة النفسية الجمعية، وهي القدرة على تحويل المعاناة إلى سرديات إيجابية وتضامنية، تبني التماسك والمقامة والدفاع عن الأرض والعِرض بدلاً من الإنهيار.
وفي فلسطين المحتلة برزت أشكال متعددة من هذه المقاومة، من التعليم الشعبي في ظل الحصار، إلى الأدب والفن، إلى الحفاظ على الروابط الأسرية والمجتمعية رغم التهجير والإنقسام والقتل والإبادة فى ظل صمت دولى غير مبرر. ويمكن القول بأن بعض عناصر الهوية الوطنية الفلسطينية تشكلت بقوة نتيجة لتلك المحن، مما يعكس قدرة مدهشة على إعادة بناء الذات في مواجهة محاولات التفكيك النفسي من جانب المحتل الغاشم.
ومع ذلك تبقى الكلفة النفسية فادحة. فالمرونة لا تعني غياب الألم، بل قدرة نسبية على التكيف، لكنها تحتاج إلى دعم نفسي ومؤسسي طويل الأمد حتى لا تتحول إلى مجرد صمود صامت.
ومن ثم فــــــــــــ تحليل هذه السياسات القمعية من منظور نفسي لا يلغي البعد السياسي أو القانوني، لكنه يضيف إليه عمقاً ضرورياً لفهم الطبيعة الإنسانية للصراع. فحين يُعامل شعب كموضوع لتجارب في السيطرة النفسية الجماعية، يصبح من واجب الضمير العالمي أن يرى ما وراء الأرقام والصور العابرة. فالضمير والوعي العالمي بما فيه الإعلام، والمؤسسات الأكاديمية، والهيئات الحقوقية، مدعو إلى إدراك أن الحروب لا تخلّف فقط قتلى وجرحى، بل وخرائط خفية من الألم النفسي، تطول الأفراد لأجيال قادمة. وأن تجاهل هذه الأبعاد لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الصراع بأشكال أكثر تعقيداً.
التعليقات مغلقة.