مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الشريف محمد بن على الحسني يكتب: قوم بور وتجارة لن تبور: مفترق الفساد والنجاة

قال الله تعالى في سورة الفرقان: ﴿ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قومًا بورا﴾، وقال في سورة فاطر: ﴿إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية يرجون تجارةً لن تبور﴾.

بين الآيتين مفترق طرق حاسم، يرسمه القرآن بين فئتين من الناس؛ فئة أعرضت عن الذكر فأُغلقت عليها أبواب الهداية، وفئة تمسكت بالقرآن فعاشت في ظلال الرحمة والبركة والأمل.

البور في اللغة هو الفساد والهلاك، ومِن معانيه: الأرض القاحلة التي لا تُنبت زرعًا، ولا يُرجى منها حصاد. ومن هنا جاء وصف الله تعالى لهؤلاء بأنهم “قوم بور”، أي لا يُنتظر منهم خير ولا يُرتجى منهم صلاح، لأنهم أعرضوا عن ذكر الله، وهجروا القرآن، وتغافلوا عن رسائل النور، وانشغلوا بزينة الدنيا ومتاعها، حتى نسوا ما خُلقوا له، وغفلوا عن سر وجودهم.

قال الإمام الطبري في تفسيره: “البوار هو الفساد، أي لا يُرجى منهم صلاح كما لا يُرجى من الأرض البور أن تُثمر”. لقد أمهلهم الله، وأسبغ عليهم من النعم ما يكفيهم، ومتعهم في دنياهم، ولكنهم لم يشكروا، ولم يذكروا، بل نسوا الذكر، وابتعدوا عن طريق الله، فصارت قلوبهم مظلمة، وأرواحهم خاوية، وجوارحهم معطلة عن الخير.

حين ينسى الإنسان الذكر، تنطفئ بصيرته، ويُغشى على قلبه، فلا يعود يرى النور حتى لو تجلى، ولا يسمع النداء حتى لو تكرر، ولا يستجيب للحق حتى لو أقبل عليه من كل باب,  فتضيع ملامح الفطرة، ويضيع معها الصدق، وتُستبدل المعاني السامية بمعاني زائفة، فيظن الهلاك حياة، والبعد عن الله حرية، والمعصية متعة. هكذا يُفسد الإنسان حين يبتعد عن القرآن، ويهجر الذكر، ويغلق قلبه أمام الحقيقة، فيصبح بورًا، أي لا يثمر خيرًا ولا يصلح لبناء ولا نفع، وإن بدا في الظاهر مزينًا بألوان الدنيا وأضوائها.

قد يهمك ايضاً:

وكيل الأزهر يعقد اجتماعًا لتدشين اللجنة العلمية لأعمال…

بلغة الإشارة.. الجامع الأزهر يوضح أسباب الهجرة النبوية  

وعلى النقيض من ذلك، تأتي الآية الأخرى لتصف فئة آمنت بالله، وجعلت القرآن رفيق دربها، فتعلقت قلوبها بالذكر، وأقامت الصلاة بحقها، وأنفقت مما رزقها الله في السر والعلن، رجاء وجه الله، لا تطلب مدحًا ولا رياء، بل تسعى لتجارة لا تخضع لمواسم ولا تتقلب مع تقلب الأسواق، بل هي تجارة مع الله، ﴿تجارة لن تبور﴾. هذه التجارة لا تُخيب صاحبها، ولا تُعلن إفلاسها، لأنها قائمة على الصدق والإخلاص، والمشتري فيها هو أكرم الأكرمين، والثمن جنات النعيم، والربح فيها لا يُقارن بأي ربح من أرباح الدنيا.

هم يتلون كتاب الله تلاوة تدبر وفهم وعمل، لا تلاوة لسان فحسب، بل تلاوة تُورث الخشوع، وتُحيي القلب، وتُهذب النفس، وتنير الطريق. هم يقيمون الصلاة لا لمجرد أداء واجب، بل لأنها صلة حقيقية بربهم، وركن راسخ في بناء إيمانهم.

ينفقون مما رزقهم الله، في السر والعلانية، لا يُثنيهم بخل ولا يمنعهم فقر، لأنهم يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى، وأن النفقة في سبيله نماء، لا نقص.

إن الفارق الجوهري بين “قوم بور” و”أهل التجارة التي لا تبور” يكمن في القلب؛ فإذا خلا القلب من ذكر الله، صار أرضًا قاحلة لا تُنبت خيرًا ولا تُثمر خشوعًا، وإذا عمره القرآن، أزهرت فيه الرحمة، وأينعت فيه الثمار. وما أشد خطورة أن يخلو القلب من الذكر، وأن تُهجر التلاوة، وأن يتحول الإنسان إلى صورة لا روح فيها، وجسد بلا رسالة، وعقل بلا نور.

لقد شاء الله بحكمته أن يضع بين أيدينا هذا الاختيار، ويترك لنا القرار: هل نكون من القوم البور الذين هجروا الذكر فعاشوا في الفساد والتيه؟ أم نكون من التجار الرابحين الذين باعوا دنياهم لله، فربحت تجارتهم، ونمت حسناتهم، واستقرت أرواحهم على يقين؟

نسأل الله أن لا يجعلنا من القوم البور، الذين نسوا الذكر فعاشوا في الغفلة والفساد، وأن يرزقنا قلبًا حيًا عامرًا بكتاب الله، وأن يجعلنا من أهل التجارة التي لا تبور، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، ودليلنا إلى رضوانه وجنته.