في زمن تحوّلت فيه المقاييس، وانقلبت فيه الموازين، لم يعد غريبًا أن نرى من يشتم والده أو يظهر في مقطع مبتذل، يُستقبل بالأحضان، وتُفتح له أبواب القنوات، ويحصد آلاف المتابعين والتكريمات، في مقابل شباب وفتيات أفنوا أعمارهم في طلب العلم، وصناعة الأمل، وبناء ذواتهم، دون أن يلتفت إليهم أحد.
فتاة، لا نعلم لها من إنجاز سوى فيديو هابط تنكّرت فيه لأبيها، أصبحت “مشاهير”، يُشار إليها بالبنان، ويتسابق البعض على استضافتها وإبرازها كنموذج “ناجح” في عصر الشهرة السهلة. أما الطبيب الذي يداوي، والمعلم الذي يُربي، والحِرَفي الذي يكدّ ويتعب، فمكانهم الظل، ولا مكان لهم على مسارح الأضواء ، وهنا لا بد من وقفة صريحة: المشكلة ليست في مؤسسات الدولة، ولا في وزاراتها أو هيئاتها، بل في المجتمع نفسه، الذي غيّر بوصلته الأخلاقية، وراح يهلل للفارغ ويهمّش المجتهد. المجتمع الذي تحوّل من حاضنة للعلم والفضيلة، إلى راعٍ للجهل والانحلال.
كيف نقبل أن يكون من يروّج للإباحية، أو يبيع جسده وعرضه عبر تطبيقات الهاتف، هو نجم المرحلة؟ كيف نغضّ الطرف عن القيم التي تتآكل يومًا بعد يوم؟! كيف نلوم المؤسسات، بينما الجمهور هو من يصنع النجم الزائف، ويتابعه، ويموّله، ويمنحه مكانة لا يستحقها، نحن أمام كارثة فكرية وأخلاقية واجتماعية متكاملة الأركان. التطبيقات والمنصات التي ترفع هؤلاء ليست بريئة، بل هي أدوات تفكيك منظّم للقيم، وهدم للأسرة، وتمزيق للنسيج المجتمعي باسم “الحرية” و”التفاعل” و”الترند”.
لقد أصبحنا في مواجهة مع مجتمع يحتفي بالساقطين ويتناسى الصاعدين، يصفّق للعار ويُعرض عن الشرف، يضع الجهل في القمة والعلم في الحضيض ، إن لم نُعد ترتيب أولوياتنا كمجتمع، ونرفع من شأن أصحاب العقول، ونُعيد للقدوة مكانتها، فإننا نكتب شهادة وفاتنا الثقافية بأنفسنا ، صرخة في وجه هذا العبث: كفى! كفى تكريمًا للجهل وكفى صمتًا عن المهزلة.