بقلم / الشريف محمد بن علي الحسني
رئيس الرابطة العلمية العالمية للأنساب الهاشمية
من المتداول تاريخيًّا أن أول من أمر بالتأريخ في الإسلام هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن بداية العام الهجري قد تقرّرت في شهر المحرم بعد مشاورة الصحابة. لكن الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911هـ) في كتابه الشماريخ في علم التاريخ أورد رواية لافتة تدفع الباحث إلى إعادة النظر في أصل التقويم الهجري، ونسبته إلى النبي نفسه صلوات الله عليه وآله.
فقد ذكر السيوطي ما نصه:
«رأيت بخط ابن القماح في مجموع له: قال ابن الصلاح: وقفتُ على كتابٍ في الشروط للأستاذ أبي طاهر ابن محمش الزيادي، ذكر فيه أن رسول الله ﷺ أرّخ بالهجرة، حين كتب الكتاب بينه وبين نصارى نجران، وأمر عليًا رضي الله عنه أن يكتب فيه: إنه كُتب لخمسٍ من الهجرة». ثم قال السيوطي: فالمؤرّخ إذن هو رسول الله ﷺ، وعمر تبعه.
وهذا النص يفتح أفقًا مهمًّا في فهم فلسفة التأريخ في الإسلام، ويُعيد التأريخ الهجري إلى جذوره النبوية، لا الراشدية فحسب. فلماذا اختار النبي ﷺ الهجرة مبدأً للتأريخ؟
أولًا: لأن الهجرة كانت لحظة التأسيس السياسي للأمة
الهجرة لم تكن مجرد انتقال مكاني من مكة إلى المدينة، بل كانت فاصلة حضارية، بها انتقل المسلمون من الاضطهاد إلى التمكين، ومن الاستضعاف إلى الدولة، ومن الفردية إلى المجتمع. ومن هنا، لم يكن غريبًا أن تؤرّخ بها أول وثيقة سياسية/دينية مع جهة خارجية كنصارى نجران، مما يعكس أن الدولة الإسلامية انطلقت تقويميًا من تلك اللحظة الفاصلة.
ثانيًا: لأنها لحظة النصر الإلهي الأول
قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] فهذا النصر الإلهي تحقق في أجواء الهجرة، حين اجتمع التوكل على الله مع الفداء الإيماني، فكانت الهجرة صورةً مجلّيةً لـ”النصرة الربانية”، ولهذا استحقت أن تكون نقطة مرجعية في كل تأريخ لاحق.
ثالثًا: لأنها لحظة جامعة للصحابة
خلافًا لحوادث المبعث أو الإسراء التي كانت شخصية في ظاهرها، كانت الهجرة حدثًا جماعيًا شارك فيه الصحابة بكل فئاتهم، رجالًا ونساء، مهاجرين وأنصارًا، في ملحمة عظيمة جمعتهم على هدف واحد: إقامة الدين في أرض آمنة.
رابعًا: لأن الهجرة تحمل معنى الفداء والتضحية
المهاجرون تركوا خلفهم الأهل والمال والديار، فكان التقويم بالهجرة تخليدًا لتلك الروح التي بها قامت الدعوة وانتصرت الرسالة. ولذلك ظلّ النبي ﷺ يُذكّر بها، ويؤرّخ بها، ويحتفي بأيامها، وجعلها بداية التمييز بين من دخل الإسلام مبكرًا ومن لحق به متأخرًا.
خامسًا: لأن الهجرة تقويم قائم على المعنى لا على الزمان المجرد
بعكس التقويمات الأخرى التي تبدأ بمولد ملك أو حادث فلكي، اختار النبي ﷺ أن يرتبط تقويم الأمة بحدثٍ تعبّدي مجيد، يقيس الزمن على ضوء التحول القيمي والرباني، لا على أساس الزمن الكوني وحده.
خلاصة المقال
إذا ثبتت رواية السيوطي عن التأريخ في وثيقة نصارى نجران، فمعناها أن النبي ﷺ هو الذي أرّخ بالهجرة أولًا، وأن تأريخ عمر رضي الله عنه إنما هو اتباع لما رسّخه النبي عمليًا، وليس ابتداعًا إداريًا من بعده.
ومن ثمّ فإن التأريخ الهجري ليس مسألة تنظيمية، بل هو امتداد لهوية النبوة، وسياق عقدي وتاريخي متكامل، يجب على المسلمين أن يعيدوا له اعتباره، وأن يستثمروه في تذكير الأمة بتاريخها وشخصيتها وولادتها من رحم الهجرة.
نسأل الله أن يُحيي فينا روح الهجرة ومعانيها، لا زمنها فحسب، وأن يجعلنا من الذين يُحيون ما مات من سنة النبي في القول والفعل والتقويم.