مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

“صلاة القلق” هل أذهبت القلق أم فجرت الغضب؟!

تحليل ورؤية- د.صبري زمزم:

 

أنا وأنتم بصدد رواية مختلفة ليس لأنها فازت بجائزة البوكر للرواية العربية ٢٠٢٥ ولكن لأنها غير عادية ، وغير تقليدية، إنها فعلا رواية مدهشة .. صادمة .. محفوفة بالقلق بدءا من العنوان العجيب (صلاة القلق ) الذي اختاره محمد سمير ندا، مرورا بموضوعها وزمنها ومكانها وشخصياتها وبدايتها ونهايتها، وقوفا أمام بنائها، سواء أسلوبها اللغوى الراقى الذي يبلغ السمو من حيث الألفاظ المنتقاة والتراكيب المسبوكة، والتعبيرات التي تدهش القارئ فيعيد قراءتها مرة أخرى غیر مصدق أن روائيا في عام ٢٠٢٥ يسرد رواية بهذا النمط اللغوى الرصين والممتع فى الوقت نفسه، والأعجب محافظة المؤلف على مستوى الأداء اللغوى من البداية إلى النهاية، بدون صعود مفاجئ أو هبوط متوقع، فالمستوى الإبداعي والامتاعى مستمر على خط يكاد يكون مستقيما، وهو شيء نادر من كتاب هذه الحقبة ، فلم يستخدم اللغة العامية لا فى حوار ولا فی سرد.والكاتب غاص في أعماق الريف المصري وعبر عن شخصيات قروية مختلفة ما بين نحال وكلاف ونجار ونساج ودباغ وشيخ وولي وراقصة غجرية يشتهيها كل رجال النجع، وقابلة متهمة بقتل المواليد.

مسرح الأحداث
أما مسرح الأحداث فهو محدد وإن كان افتراضيا فالاحداث محصورة في قرية “نجع المناسي” في الصحراء الشرقية ولكنها قرية منسية تعيش ظروفاً خاصة جدا حيث إن زمن الرواية عشر سنوات تبدأ بحرب ، يونيو ١٩٦٧ والتي أثرت تأثيرا مباشرا فى الأحداث، حيث تعيش القرية بكل أفرادها جو المعركة ولكن بشكل مختلف عن جميع مدن وقرى مصر، فالمعركة بالنسبة لهم بدأت واستمرت بلا انقطاع، على مدار عشر سنوات كاملة، وهي كل زمن الرواية، وليس هذا فحسب، بل ضرب القرية نيزك فلكي كان أشبه بقنبلة ذرية فأحاط القرية بسياج من الخوف عزل القرية عزلا تاما عن مصر، فلا أحد يدخل إليها ولا أحد يخرج منها، فضلا عن حصارها بحزام من الألغام حولها مما جعل الخروج منها مستحيلا، أما شئون القرية فيديرها كلها شخص و احد اسمه خلیل خوجه، وهو الشخصية المحورية في الرواية، فهو صاحب المتجر الوحيد الذى من خلاله يحصل الأهالى على كل مستلزماتهم السلعية وغيرها، وهو أيضا صاحب المركز الإعلامي الوحيد للقرية فيمتلك جهاز الراديو الوحيد الذي يربطهم بالأحداث السياسية و يمدهم ببيانات حرب يونيو ١٩٦٧، ويملك طباعة الصحيفة الوحيدة ويوزعها على كل البيوت واسمها “صوت الحرب” ، رغم أن معظم أهل القرية أميون، ويمتلك السيارة الوحيدة التى تنقل من يركبها للعالم الخارجى للقرية، ويحصل منهم نسبة من دخلهم ليرسله إلى المجهود الحربي عبر السيارات المموهة التي تزوره من وقت لآخر، ويضع تمثالا للزعيم أمام دكانه كرمز للدولة وهيبتها، ومع أيام الحرب الأولى تتوالى عبر الراديو الوحيد الذى لا يتحرك مؤشره إلى محطة أخرى، وتتوالى بيانات الانتصار وإسقاط طائرات العدو وتفوق قواتنا باكتساح، فتتعالى الصيحات وترتفع الروح المعنوية لأهالي القرية، وبعد إذاعة خطاب التنحي الصادم والمفاجئ، إذا بالراديو الوحيد تنفد بطارته فيتوقف عن البث، وكذلك تعطلت السيارة الوحيدة، وبقيت فقط الصحيفة الوحيدة “صوت الحرب” التى يطبعها خليل خوجة،وإذا بها تزف لهم أبناء تحويل الزعيم الدفة بشكل مباغت للعدو الذي انخدع ببيان التنحي المراوغ فيحقق انتصارا هائلا ويحرر فلسطين، ولكن الحرب ما زالت مستمرة، واستمر الوضع على هذا الحال إلى النهاية، فلا الحرب توقفت ، ولا عاد أبناء القرية المشاركون فى الحرب، وطال انتظار أهاليهم لهم بلا جدوى وانقطعت خطاباتهم وأموالهم التي كانوا يرسلونها لأهاليهم بشكل دوري ونظرا لتجمد الموقف داخل القرية المعزولة المحاصرة تصاعدت حالة القلق خصوصا بعد تفشى آثار الإشعاع الناتج عند النيزك الذي سقط حول القرية فسقط شعر رءوسهم وجواجبهم وأصاب القرية بالعقم ، وأصبح الحذر والخوف هو الشعور الغالب بين كل سكان القرية حتى فيما بين أفراد الأسرة الواحدة مما دعا شيخ القرية إلى ابتداع صلاة سماها صلاة القلق لتكون عونا لهم لتبديد هذه المشاعر وزاد من آلامهم تلك الكتابات السوداء التي يجدونها على جدران منازلهم تنشر فضائحهم التي يتكتمونها ولا يعرفون من الذي يكتبها في جنح الظلام.
الغضب والثورة
وبعد عشر سنوات تصاعدت فيها مشاعر السخط والقلق واليأس، يثور الأهالي على خليل خوجة ويحرقون داره، ويحطمون تمثال الزعيم الذي نسجت حوله الأساطير ويموت عبد الحليم حافظ الذي بدأت كل الفصول بمقطع من أغانيه.

 

قد يهمك ايضاً:

بناء الرواية
كانت هذه هي الرواية عموما، أما بناء الرواية فله حديث مثير، حيث بناها على ٨ شخصيات أساسية كل منها تتحدث عن نفسها وعن الآخرين وكل منها ترى الأحداث من زاويتها الشخصية وترسم الشخصيات الأخرى من خلال رأيها فيها، فتختلف الروايات باختلاف الأشخاص، وسمى كل فصل بجلسة باسم صاحبها وهى: نوح النحال ومحروس الدباغ، ووداد القابلة المولدة ، وعاكف الكلاف ومحجوب النجار، وشواهی الراقصة الغجرية وزكريا النساج، وجعفر الولى، وكل هؤلاء عرضوا أحوالهم وأحوال جيرانهم وسكان القرية، بمن فيهم خليل خوجه الرئيس الفعلى للقرية والمتحكم في كل شئونها المالية والتجارية والإعلامية، وزوجته التي أشيع أنها هربت منه، وابنه حكيم الذي قطع لسانه في نوبة صرع عقب اختفاء أمه ليعيش طفلاً أبكم ورغم ذلك يجيد الكتابة والقراءة، ويهوى الاستماع إلى أغانى عبد الحليم حافظ ويتنقل بين شوارع القرية ودروبها بسرعة لافتة، والغريب أنه الوحيد الذي بقى شعره ولم يسقط إثر النيزك الذي ضرب القرية.

 

النهاية المثيرة
وعند ما تقارب الرواية من نهايتها يفاجئنا المؤلف بما يدهشنا كقراء، فما كانت تلك الجلسات التي عنون لها بأسماء الشخصيات التى تحكى الأحداث إلا جلسات مريض نفسى عند الطبيب، وفى كل جلسة يتقمص شخصية من شخصيات القرية ويحكى على لسانها ما يخصها من أحداث، وتكتشف أن الذي يحكى فى هذه الجلسات هو حكيم المريض النفسي الأبكم المقطوع اللسان، وقد حكاها لأحد الأطباء ليأتي طبيب آخر يستكمل علاجه، وينصحه بكتابة كل ما يريد التعبير عنه كجزء من العلاج فبدأ كتابة هوامش سماها جلسات على أوراق فلوسكاب، ورقمها من صفر إلى عشرة بدأها بكلمة أنا كاتب الجلسات ، ليكشف لنا المتكلم عن شخصيته فهو الطفل حكيم الأبكم المقطوع اللسان في ظروف غامضة،

ابن خليل خوجه المسيطر المتحكم فى النجع ليكشف لنا عن سر الكتابة السوداء علی بیوت الأهالي التي كانت تذيع أسرارهم وفضائحهم وأنه الذي كان يكتبها ، ويكشف لنا عن أنه سارد الأحداث وراويها الوحيد، ولكن على ألسنة أبطال الرواية ، ثم الكشف لنا سر اختفاء أمه وأن أباه قتل أمه عندما كشفت خبر موت جمال عبد الناصر، ودفنها وأخفاها، وزعم للأهالي أنها هربت، واستيقظ حكيم من نومه ليجد لسانه مقطوعا وزعم أبوه أنه عض لسانه وقطعة في نوبة صرع أصابته، ليستعيض في النهاية بقلمه عن لسانه فى بيان وفضح على الشخصيات التى روت و تكلمت من قبل لتكتشف أنه هو الذى كان يتقمصها ويحكي بالنيابة عنها، وفى النهاية يكتب الطبيب المعالج تقريرا بأنه مصاب بمرض نفسى وينصح ببقائه فى المصحة النفسيه لأنه لا يتوافر من يؤتمن على إعطائه الأدوية فى مواعيدها، ولصعوبة تواصله مع من حوله، لعجزه عند الكلام ولوحدته وفقدانه الأب والأم .
إنها رواية تحتاج لدراسة عميقة تحلل رموزها وإسقاطاتها وتفسير ما قاله وكشف ما لم يقله، رواية تستكشف أديب جديد يضاف إلى أدباء كبار نعتز بهم، وننتظر منه المزيد والمزيد من الإبداع على نفس المستوى من الإمتاع إنه محمد سمير ندا.