مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

وما زلتُ بشرًا

بقلم : الكاتبة زينب مدكور عبد العزيز 

 

لم أكن يومًا خارقًا، ولم أدّعِ النقاء المطلق . لم أقل إنني بلا أخطاء أو بلا لحظات ضعف أو انكسار .

 لكنني، رغم كل ما مررت به ورغم ما عايشته من وجوه زائفة وأقنعة متبدلة، ورغم غصّات الظلم التي سكنت حنجرتي . 

ما زلتُ بشرًا !

 ما زلت أملك قلبًا يشعر، وعينًا تدمع، وضميرًا يئن حين يرى الوجع في غيري .

 لم يُطفئني الألم، ولم يُحوّلني إلى نسخته . لم أتعلم الكره كما تعلّمه غيري، ولا مارست القسوة كأنها شطارة أو قوة .

 

عشت في عالم مليء بالتناقضات ؛ حيث يتقن البعض تمثيل الفضيلة وهم في باطنهم خراب . رأيت وجوهًا تحمل المديح، وتخفي خلف ابتساماتها خناجر الغدر . تعاملت مع أشخاص تسلقوا على أكتاف النبلاء، فحازوا المناصب والسلطة والهيبة الكاذبة، بينما من يستحقونها يُقصون في صمت، يُحاصرهم التهميش ، كأنهم شُبهات .

 

عرفت معنى أن تكون نقيًا في وسط عكر، أن تحاول أن تكون ضوءًا وسط العتمة، أن تُبقي على إنسانيتك في مكان يُكافأ فيه الانتهازيون، ويُصفّق فيه للمتلونين، ويُشيطَن فيه الصادقون . 

كانوا يقولون لي : “لن تنجح إن لم تكن مثلهم”، وكنت أقول في داخلي “نجاح على حساب ضميري ليس نجاحًا، بل صفقة خاسرة”.

 

كلما مررت بتجربة جديدة، وكلما اصطدمت بروح مريضة أو عقل متعجرف أو مسؤول لا يرى أبعد من كرسيه .

كنت أردد لنفسي : لا تترك نفسك تُشبههم. لا تجعل قسوتهم تُطفئ حنانك .

 لا تسمح لانعدام ضميرهم أن يقتل ضميرك . كن كما أنت، ولا تكن كما هم .

 

عرفت الظلم، لا كحكاية تُروى، بل كواقع يُعاش . عرفت كيف يُقصى الإنسان فقط لأنه لا يجيد المجاملة، لأنه لا يصفّق في غير موضع التصفيق، لأنه لا يخشى قول الحق وإن كلّفه ذلك كل شيء .

 عرفت وجع أن تُجرد من حقك فقط لأنك لم تُرِد أن تكون تابعًا، لأنك اخترت أن تكون أنت .

 

لكن، ورغم كل ذلك، لم أُصبح قاسيًا . 

لم أتخلّ عن ملامحي الأولى، لم أنزع قلبي لأضع حجرًا مكانه .

قد يهمك ايضاً:

قبول الآخر (المواطنة)

انور ابو الخير يكتب : الصمت العربي

 ما زلتُ أُصافح النوايا الطيبة، وأصدق النظرات النقية، وأُبصر في أعين البسطاء أملًا، وفي حكايات المظلومين صبرًا جليلًا . ما زلتُ أبكي حين أرى مشهدًا مؤلمًا في فيلم، أو أسمع صوتًا حزينًا يروي فُقده، أو أشاهد طفلًا يبيع المناديل في شوارع المدينة.

 

وما زلت أحنو على الضعفاء، وأرأف بالمساكين، وأُعطي مما أملك حتى إن قلّ، لأنني أُدرك أن ما يربطني بهؤلاء هو جوهر الإنسانية، ذاك الشيء الذي لا يُشترى ولا يُباع، والذي لا تمنحه المناصب، ولا تُلغيه السلطة .

 

كثيرون ممن عرفت اختاروا أن يتخلوا عن إنسانيتهم، ظنًا منهم أن الطيبة ضعف، والرحمة خذلان، والتسامح هزيمة . بينما أنا، رغم كل من خذلني، ما زلت أقول: أنا بشر. لا أُجيد الانتقام، ولا أرتدي القسوة قناعًا . قلبي ليس مؤقتًا، ومبادئي ليست مرنة حسب المصلحة .

 

كان بإمكاني أن أُجاري هذا التيار، أن أتلوّن معهم، أن أكون نسخة من هذا الزيف الكبير، لكنني اخترت الصدق، والصدق مكلف . نعم، مكلف جدًا . 

لا مكان للقلوب البيضاء في أروقة المناصب، ولا مكان للنية الصافية في دهاليز المصلحة، لكنني لم أُخلق لأُشبههم، بل لأكون ما أنا عليه.

 

قد تقولون إنني مثالية ، لا بأس . وقد تسخرون من تمسكي بقيم باتت تُوصف بالسذاجة ، لا يهم 

 فليكن ، لكنني لن أبدّل جلدي، لن أتحول إلى تمثال بلا روح، ولن أجعل من منصب أو مال أو نفوذ مرآتي الوحيدة . 

إنسانيتي هي مرآتي . صدقي هو عنواني . وعطفي، رغم ألمي، هو ما يبقيني حيًا .

 

هل تعلمون كم مرة شعرتُ فيها أنني وحدي؟ أنني أغرد خارج السرب؟ أنني في معركة خاسرة؟ كثيرة هي المرات . وكم مرة راودني الشعور بأن أتحول؟ أن أُجاري، أن أتبلّد؟ كثيرة أيضًا . لكن كل مرة كنت أعود لأقول لنفسي: لا، لا تفعل . لأنك حين تفعل، لن تُشبه نفسك بعد اليوم، ولن تعود يومًا إلى ما كنت عليه.

 

أنا لا أطلب أن يصفق لي أحد. لا أنتظر وسامًا على صدري . ولا أُريد أن أُذكر في كتب الأخلاق أو يُقال عني إني مختلف . كل ما أطلبه هو أن أظل كما أنا: إنسان. يشعر. يتألم. يفرح. يُحب. يُسامح. يُخطئ ويصحح. يُحاول رغم الفشل. يُضيء رغم الظلام.

 

وكلما سألني أحدهم: كيف لم تتغير؟ كيف ما زلت تُحب الناس رغم ما فعلوه بك؟ أبتسم وأقول: لأنني ما زلت بشرًا.

 

بشرٌ يرى في الآخرين إنسانًا قبل أن يراهم موقعًا أو شكلاً. بشرٌ يوقن أن الخير ليس ضعفًا، وأن النُبل ليس سذاجة، وأن من يُسيء لا يُعطيني مبررًا لأن أُسيء.

 

ورغم كل هذه الصعاب، ورغم الحروب النفسية التي خضتها مع من امتلأت قلوبهم بالحقد وفرغت من الإنسانية، أولئك الحمقى الذين توهّموا أن الألقاب تُخلّدهم، وأن الواجهة تغني عن الجوهر، نجحت . نعم، نجحتُ دون أن أُسقط أحدًا، دون أن أتخلّى عن ذوقي، أو أن أخلع أناقتي الأخلاقية، ودون أن أشاركهم مستنقعهم . 

وسأنجح أكثر، فقط لأُثبت لهم أن الرقي لا يُعيق الوصول، وأن الذوق لا يتعارض مع التفوق، وأن الأصيل لا يُهزم، وإن طال صبره . سأصعد، لا لأراهم تحت قدمي، بل لأجعلهم يرفعون رؤوسهم كي يروني … رغماً عنهم.

 

وختامًا، دعوني أقولها بصوت هادئ وواثق: قد أخذوا مني الكثير، لكنهم لم يأخذوا قلبي . قد حاولوا كثيرًا أن يُحطموني، لكنني ما زلت واقفًا . وما زلت أشعر. وما زلت أُحب . 

وما زلت … بشرًا .