يحتفل العالم بـ عيد الأم الذي يصادف الحادي والعشرين من آذار/ مارس من كل عام متزامناً مع بداية فصل الربيع الذي تتفتح فيه الأزهار بألوانه الزهية إلا في فلسطين تعجّ سماؤها بأصوات آهات وأنين الأمهات الفلسطينيات وذكرياتهن الموجعة من فقدان الابن أو الزوج أو الأهل إما قصفاً أو قنصاً أو جوعاً أواعتقالاً في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية وعقبات تعرقل مفاوضات التهدئة في غزة وممارسات الاحتلال الإسرائيلي القهرية الممنهجة بالضفة الغربية وشبح التهجير والتطهير العرقي والحصار الخانق.
لم تكن الأم الفلسطينية بعيدة عن الأحداث التي تعصف بالساحة الفلسطينية بل كانت في قلبه حتى الرمق الأخير سطرت أروع ملاحم الصمود والتحدي والتضحية والفداء بقيت دوماً شامخة اجتمع في قلبها نبضات الأم الحنونة ونبضات تخفق حباً للوطن أنجبت أبطالاً وقـوافل من الشجعان دفعتهم إلى ساحات المجد والخلود ليرتقوا أقماراً إلى العلياء وأهدتهم للحرية شهداءً ليسطروا بدمائهم الزكية ثرى فلسطين.
قلوب فولاذية
يأتي عيد الأم هذا العام في ظل تعاظم التحديات التي تواجهها الأم الفلسطينية فعاماً تلو آخر تجسد الأم الفلسطينية نموذجاً فريداً بتحديها وصلابتها إذ تعدّ شوكة في حلق الكيان الصهيوني الغاصب الذي يسعى بكل وسائله الصهيونية واساليبه القمعية إلى إخماد شعلة الامومة وفوق ذلك تحملت الأم الفلسطينية بمفردها وطأة ويلات الحرب وتداعياتها الكارثية على كافة المستويات بدءاً من ترك منازلهن مروراً بإنعدام أدنى مقومات الحياة وصولاً لفقدان أفراد عائلاتهن وأطفالهن فقد رسمت الام الفلسطينية لوحتها الخاصة بها ، فما زالت ورودها تزهر رغم حقول الألغام من حولها نعم..
لقد علمتنا أن القهر والذل وكافة أنواع القمع ما هو إلا تحدي وصمود سطرت بنضالها ودمائها الطاهرة وثباتها أروع الأمثلة إيماناً منها بنبل قضيتها وسمو دورها.
أ مهات فلسطين يغيرن معاني الأمومة
الام الفلسطينية مختلفة عن مثيلاتها هي الوحيدة التي حملت ابنها مرتين مرة عند ولادته ومرة عند استشهاده ،هي أيقونة البطولة في أقوى معانيها هي الأم والمناضلة والمقاومة والثائرة والشهيدة والاسيرة والجريحة والصابرة والأدبية.
الأم الفلسطينية تعيش آلاماً وأوجاعاً تختنق الكلمات في الحناجر لوصفها وتعجز عن التعبير من هول تفاصيلها المأساوية كيف يمكن أن تصف امًا تحتضن بقايا أشلاء فلذة كبدها..؟ كيف يمكن أن تنقل صرخة أم تبحث بين الركام عن بقايا أسرتها..؟ كيف يمكن ان تصمد أمام دموع رضيعها يستند على جدار مهترئ يفترش الارض ويلتحف السماء يمزق الجوع احشائه ويهدده المرض نتيجة اتباع سياسة التجويع والحصار مشاهد وصور مرعبة تراودها لا تحتمل ولا يمكن لعقل أن يتخيلها إذ اختبرن أبشع أنواع الألم والقهر فشُوهت حواسهن واحترقت أجسادهن ودُمرت ذكرياتهن ، الأم الفلسطينية تحمل كل المفردات التي تجعلها أسطورة هذا العصر الذي يجهد للنيل من عزيمتها وثباتها لكنها تأبى ذلك.
في فلسطين يختلف الاحتفال في يوم الأم فتعيش الأمهات على أنقاض قبر شهيدها تستعيد كلماته الأخيرة وأخرى تعانق صورة اسيرها وثالثة تمضي لياليها بجوار جريحها في المستشفى تخفي دموعها خلف ابتسامة مرهقة وقلوب أخرى أضناهن الحزن والألم على ذكرى جميلة تركها لها ابنها قبل أن تفقده او منزل مدمر مازال تحت الركام يحمل ذكريات ذهبت مع الرماد.
الأمومة المنزوعة في فلسطين
تناول مقال عن الأمومة في فلسطين نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بأكتوبر 2023م ، تـم تعريف الأمومة بأنها “حالة خوف وقهر دائمة”؛ فأن تكوني أمّاً هنا يعني أن تهيئي نفسك دائماً لخبر الفقد، وأن تدربي قلبك على إمكان الانطفاء المفاجئ، والخفقان السريع. كما معناه أن تعوّدي أبناءك على إمكان الغياب القسري، وأن تحصني وعيهم بإمكانات الموت السريع، والاعتقال المباغت، والإصابة الحرجة، والقائمة تطول وتطول، فمسببات الألم هنا كثيرة ومتنوعة وتحمل كماً مهولاً من التشويق والإثارة، على عكس مسببات الأمل. وعليه، يُحصر دور الأم الفلسطينية هنا في إنشاء توازن دائم بين الألم والأمل في أذهان أبنائها وقلوبهم، لتصبح الحياة ممكنة وغير مستحيلة!
الأمومة بفلسطين وبغزة بالتحديد أنها “طفل آخر يخرج إلى الجحيم” فهناك آلاف الأطفال الذين يولدون بظروف لا يمكن تصورها وعن أمهات نزفن حتى الموت وممرضات اضطررن لإجراء عمليات ولادة قيصرية لست (6) نساء حوامل متوفيات.
فأن معدل وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة غير معروف لكنه حتماً مرتفع في ظروف انعدام خدمات الرعاية الطبية الكافية والتغذية والحماية قبل وأثناء وبعد الولادة.
خذونا.. ادفنونا معهم
تواجه الأمهات الفلسطينيّات تحديات تفوق الخيال فالحرب في غزة تقهر الأمومة وتنزعها وذلك عبر شبح الفقدان المتكرر إما بالموت أو الأسر الذي يجعل الأمهات تتساءل عن قيمة حياتهن كأمهات حيث لا يجدن في وجودهن أية قيمة دون أبنائهن ونسمعهن يرددن: “خذونا معهم”. “ادفنونا معهم.”
عدا عن ذلك فكابوس فقدان جثامين الأحبة بات يخيم بظلاله على حياتهن فقد لجأن لاستخدام الأقلام الجافة لتوثيق أسماء أطفالهن على أعضاء جسدهم الضئيل كي يتسنى التعرف عليهم في عملية البحث بين الأشلاء عقب القصف والاستشهاد، كما وتقوم الأم هي الأخرى بكتابة المعلومات الخاصة بها على جسدها خشية فقدها تحت الأنقاض. هذه الظّاهرة المؤلمة لا تعرفها سوى الأم الفلسطينية.
مشاهد حية على مرأى ومسمع العالم
المشهد الأول مشهد النزوح لأم تجر خلفها طفليها على مقعدين مخصصين للأطفال وعلى ظهرها حقائبهما قاطعة مسافات طويلة دون ملل أو كلل، وحرصها على عدم تعريضهما لعناء المشي وتحمله هي بنفسها بدلاً منهما ، ويبدو أنها نجحت في ذلك حيث بدا الولدان وهما يشعران بالراحة وكأنهما ذاهبان في نزهة. وصفت هذه الأم بالأم الخارقة أثبتت بهذا المشهد صمودها وقدرتها على التحمل وحرصها على إيجاد مكان آمن لطفليها وسط حرب يشنها عدو منزوع الرحمة وصمت دولي مخجل وإنسانية تتصف بالعار.
المشهد الثاني لصراخ وبكاء وعويل أمهات يلدن أطفالهم داخل المستشفيات دون رعاية أو اهتمام حيث أعلنت معظم المستشفيات توقفها عن العمل بعد استهدافها وباتت تحمل عنوان “المقابر” لا المستشفيات وسيارات الإسعاف أصبحت هي الأخرى أهدافاً لطيران الاحتلال وتوقف حاضنات الخدج وحديثي الولادة للقطع المتعمد للكهرباء ووفاة العشرات منهم على مرأى أمهاتهم وعجزهن عن فعل أي شيء يمكنه إيقاف ذلك.
فقد بلغ عدد الشهداء بعد سبعة عشر شهراً من الابادة الجماعية على قطاع غزة وفقاً لآخر إحصائيات سجلتها وزارة الصحة الفلسطينية أكثر من 49.547 شهيد، 72% منهم من النساء والأطفال، منهم أكثر من 12.298 شهيدة من النساء، وأكثر من 17.881 شهيد من الأطفال وبلغ عدد المفقودين أكثر من 11.200، منهم 4.700 من النساء والأطفال واستشهاد 41 طفلاً نتيجة المجاعة و14 أماً من بين 25 أسيرة فلسطينية يقبعن في سجون الاحتلال ، أرقام تعكس ليس فقط حجم الخسائر البشرية بل تداعيات إنسانية تهدد مستقبل جيل كامل في بيئة تعاني من انهيار شبه كامل في الخدمات الأساسية والبنى التحتية.
الأم بعيون روائية
رواية “أم سعد”.. أحد أشهر أعمال الكاتب الروائي والمناضل الفلسطيني المشهور غسان كنفاني كتبها في عام 1969م إثر نكسة حزيران عام 1967م تجسد فيها الأم الفلسطينية بكل ما للكلمة من معنى ، كنفاني يصفها بآلامها واحلامها في صبرها وثباتها وشموخها وعطائها الغير محدود .
أم سعد هى نموذج لمجموعة من نساء فلسطين حيث تجد فيهن الأم والزوجة والمناضلة والعاملة كل هذه النساء تلتقي في قالب واحد وهو المرأة الفلسطينية.
رواية “العشاق” للأديب الفلسطيني رشاد أبو شاور هي أولى النماذج التي تلقي الدراسة الضوء عليها ففيها تتجلى أم فلسطينية مكافحة بعنفوانها وكبريائها وبقوة إرادتها وعظمة إيمانها بالمستقبل وطول صبرها ، فلم يربكها غياب زوجها الذي قتله حراس الحدود الأردنية وهو يعبر ليقوم بعمليات فدائية داخل الأرض المحتلة.
كما أن الروائي الفلسطيني حرص على أن يقدم الأم الفلسطينية في إطار إنساني وفني بديع ومميزّ فقدمها إنسانة مكافحة محبة للحياة وللأرض والعمل فلم تستسلم للواقع المرير الذي فرضه عليها الاحتلال من جهة وفقد الزوج من جهة ثانية بل عملت وكافحت بكل ما أوتيت من قدرة على مغالبة الشدائد والصمود أمام جبروت الاحتلال.
حظيت الأم الفلسطينية باهتمام الكثير من الكتّاب والأدباء على اختلاف اتجاهاتهم وتعدد اهتماماتهم وشغلت حيزاً بارزاً في نتاجهم الأدبي سواء أكان شعراً أم نثراً.
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش في حنينه إلى أمه: أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي .. ولمسة أمي .. وتكبُر في الطفولة يوماً على صدر يوم وأعشق عمري لأني إذا مت، أخجل من دمع أمي!
الأمهات الفلسطينيات ونساء فلسطين على امتدادها هن من يُنجبن الحياة ويكتبن كتبها يوماً بعد يوم.