في الوقت الذي أصيب العالم كله وخاصةً المسلمون منهم بالفاجعة الكبرى في حادث نيوزلاندا الإرهابي حيث قتل العشرات من المصلين العزل، بينهم أطفال ونساء، كانت هناك بعض الجوانب التي تعتبر من باب الخير الكامن في الشر، وذلكم أن كثيرًا من المواقف المؤلمة والأحداث المؤسفة نكتشف أن الخير كان فيها، وأن الله اختار لنا الأصلح حتى وإن كرهنا وقوعها.
قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
وكل هذه الأحداث تخبرنا أن الخير فيما قدّره الله لنا. حتى وإن كان الشر ظاهرًا كحادثة الإفك مثلًا:
قال الله تعالى(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)[النور:11]
هذا في حادثة الإفك حيث خاضوا في عِرض سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
والسؤال: كيف يكمن الخير في مثل هذه الحادثة، أو في قصة الغلام الذي قتله الخضر بأمر الله تعالى، أو في إلقاء أم موسى لولدها في البحر، أو في قصة صلح الحديبية الذي اعتبره بعض الصحابة مهانة وذلًا بينما أسماه الله عز وجل فتحًا مبينًا؟ إنه تدبير العليم الخبير سبحانه وتعالى .
والمتابع لهذه الحادثة يستطيع أن يستخرج منها بكل سهولة جوانب الخير وهي كثيرة تحاج إلى مزيد تأمل، كما أن الأيام تكشف لنا عن جوانب ومبشرات أخرى فعلى سبيل المثال:
منها: الخاتمة الحسنة، والمكانة العظمى لمن نحسبهم شهداء، ولو علم هذا المجرم ما قدّمه لهؤلاء الشهداء من أجر وحسن خاتمة، لما أقدم على فعلته.
ومنها: ليعلم العالم كله أن الإرهاب لا دين له، ولا وطن له، وأن التطرف موجود في كل زمان ومكان، وفي أتباع كل دين ومذهب يوجد متطرفون ومتعصبون، بل في هذا الحادث الإرهابي يظهر المسلمون في موقف الضحية.
ومنها: لفتَ هذا الحادث أنظار العالم كله إلى هذا الدين- الذي يُظهرونه دائمًا على أنه دين الإرهاب- وهذه الشعائر التي كانت تؤدى في المسجد، فبعضهم أتى المساجد ليشاهد هذه الصلاة، وبعضهم قرأ عن الإسلام، وكثير دخلوا في الإسلام، ونسأل الله أن يحسن إسلامهم.
ومنها: أن الإرهاب لا يحتاج إلى تنظيم، فقد يكون شخص واحد، ولكنه يحمل في رأسه أفكار جماعة، وتخطيط منظم ومدروس لزعزعة أمن وإحداث تخريب، وعلى الجهات أن تعتبر هذا.
ومنها: أن بعض الدول التي تدعم الإرهاب وتمولّه لتخريب دولًا أخرى لابد وأن تكتوي بناره، وسيأتي يوم ينقلب فيه السحر على الساحر.
ومنها: أن هذا المجرم أراد أن يسطر اسمه بين هؤلاء المجرمين قبله في حق المسلمين، وحق الإنسانية، حيث ظهر هذا من الأسماء والارقام والتواريخ التي كتبها على سلاحه المشئوم.
ومنها: هذا الحادث يلقي بأذهاننا إلى خطورة بعض الألعاب القتالية التي يولع بها شبابنا، فمن يشاهد المقطع الذي صوره هذا المجرم يتخيل على الفور نفسه كأنه في بعض مستويات بعض هذه الألعاب، وقد حذر علماء نفس واجتماع ودين من التأثيرات السلبية لهذه الألعاب على الشباب من نواحٍ كثيرة، ولا ننسى أن بعضها كالحوت الأزرق كان سبًا في انتحار بعض الشباب وقيامهم بارتكاب بعض الجرائم.
ومنها: انتفاضة العالم كله شعوبًا وزعماء وخاصةً نيوزلاند وقياداتها للتعاطف مع الملسمين، واستنكار الحادث، وقيام بعض الهيئات والأشخاص غير المسلمين بحماية المساجد.
ومنها: أن هذا الحادث الخسيس يبين مدى كراهية وخسة فاعله، حيث إنه قد اختار مكانًا لبعض المصلين العزل، وبينهم نساء وأطفال مما سهّل جريمته النكراء.
ومنها: أثبتت الأرقام والأسماء التي كتبها هذا المجرم على سلاحه مدى ثقافته واطلاعه على أحداث التاريخ الإسلامي الحربي، خاصة فيما يتعلق بالفتوحات والتوسعات في أوروبا، وهذا كشف أيضًا أكثرنا حول مدى ثقافتنا ومعرفتنا للأحداث التاريخية الإسلامية.
ومنها: أنه بتصويره وتوثيقه للحادث قد منع إلصاق التهمة ببرئ كما هو المتبع في مثل هذه الأحداث، لخلق الوقيعة الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو حتى العنصرية.
وختامًا: فهذا الدين عجيب ما عانده أو تحداه أحد إلا غلبه، لأنه دين الله، والله خير حافظًا وهو أرحم الرحمين، وكأن هذا المجرم قد خدم الإسلام والمسلمين خدمات جليلة.
والله أعلى وأعلم وأجل وأحكم
فضيلة الشيخ : محمد عاشور
من علماء الازهر الشريف