بقلم – د . إســلام جـمال الـدين شــوقي
خـبير اقـتصــادي وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي
تُعدُ نظرية تأثير الفراشة (Butterfly Effect Theory) هي من أحدث النظريات العلمية الفيزيائية الحديثة، ومصطلح “تأثير الفراشة” هو مُصطلح مجازي تقوم فكرته على أن الأشياء الصغيرة التي تنجم عن حدثٍ قد يبدو للوهلة الأولى أنه بسيط في حد ذاته، لكنه يمكن أن ينتج عنه أو يولد سلسلة من النتائجِ والتطورات المتتالية التي يفوق حجمها نقطة بداية الحدث بمعنى أدق نقطة بداية الحدث تحدث في مكان وعواقبه ونتائجة تكون في أماكن أخرى
بل والأكثر من ذلك أيضًا يمتد التأثير ليتخطى الزمن فقد يحدث التغيير بعد يوم أو شهر أو سنة، وكما قالَ الشاعرُ: “ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستَصْغرِ الشَرِرِ”.
نشأة النظرية:
تأسست هذه النظرية على يد عالم الرياضيات والأرصاد الجوية «إدوارد لورينز» في عام 1961 حيث كان يجري عملية حسابية للتنبّؤِ بالطقسِ، وبدلاً من أن يدخل على جهاز الحاسب الآلي العدد (142,357128) كاملاً اختصرهُ إلى (142,357) أي إنه أهمل 3 خانات من أصل 6 بعد الفاصلة اختصارًا للوقت، اعتقادًا منه أن هذه الكسور الصغيرة جدًا لن تغير بالنتيجة لبساطة تأثيرها ولكن مع أن الفرق قليل جدًا، إلا أنهُ حصلَ فرق هائل بالنتيجة.
واستنتج «إدوارد لورينز» بعد هذه النتيجة أن الأشياء أو الأحداث الصغيرة وغير الملحوظة تتطوّر وتكبر لتصبح أحداثًا ضخمة جدًا حيث أن الفرق بين السلسلتين كان صغيرًا جدًا لدرجة تشبه رفرفة جناحي الفراشة في الهواء فأطلق على ما حدث “نظرية تأثير الفراشة”،
ولقد تسببت هذه النظرية في تغيير مفاهيم كثيرة وكانت بمثابة اللبنة الأساسية لعلم الفيزياء الحديث حيث كانت تعتمد على الفروقات الصغيرة لإحداث نتائج كبيرة، ورغم أن هذه النظرية توجد في أدبيات الأرصاد الجوية بكثرة إلا أنها قد دخلت في مجالات عديدة كالرياضيات، والفيزياء، وكذلك في إدارة الأزمات والاقتصاد.
تأثير نظرية الفراشة على الإقتصاد :
يمكن اعتبار الإقتصاد الدولي نظامًا يؤثر كل جزء فيه على الأجزاء الأخرى، والإقتصاد نظام معقد حيث لا يقتصر سوى على النتائج فقط مثل النمو، والتضخم، والكساد وغيرها من مفاهيم في علم الاقتصاد،
ومع ظهور العولمة والتقدم في تكنولوجيا الإتصالات، أصبحت إقتصاديات الدول المختلفة أكثر ترابطًا مما كانت عليه في الماضي. ويمكن أن تتسبب حركة واحدة في سوق إحدى الدول إلى حدوث مشكلات للنظام العالمي بأكمله،
ويشير تأثير الفراشة في الإقتصاد إلى التأثير المضاعف للتغييرات الصغيرة، ونتيجة لذلك يكاد يكون من المستحيل إجراء تنبؤات دقيقة حول المستقبل أو تحديد السبب الدقيق للتغييرات غير المبررة أو غير المفهومة.
الأزمة المالية العالمية 2008:
ومن أشهر الأمثلة على أثر الفراشة في علم الإقتصاد، الأسواق المالية حيث تلعب الفراشة دور كبير في تأثيرها على الأسواق فقد يؤدي حدث ما إلى انهيار الأسواق المالية، أو انتعاشها،
وهذا ما حدث بالفعل حيث شهدت أسواق المال حول العالم إنخفاضًا مفزعًا وهو ما أطلق عليه “الأزمة المالية العالمية” في عام ۲۰۰۸،
حيث أدت الثقة الزائدة في التنبؤات المالية إلى زيادة عمليات الإقتراض بشكل كبير، مما أدى إلى حدوث الأزمة، وانهيار الأسواق المالية العالمية، وإفلاس بنوك كثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية قدر عددها بحوالي 19 بنكًا، وحدث ارتفاع كبير في معدلات البطالة، ومعاناة أغلب دول العالم من ركود إقتصادي أستمر لسنوات كبيرة مما دفع الحكومات لأتباع الكثير من الإجراءات للعودة للانتعاش مرة أخرى.
أزمة فيروس كورونا والمتحور أوميكرون :
ونتخلص من تأثير الأزمة المالية العالمية لتطل علينا فراشة أخرى جديدة بتأثيراتها ولكن هذه المرة التأثيرات ليست مالية في الأساس بل تأثيرات صحية وأدت إلى حدوث كارثة صحية واقتصادية على حد سواء؛
حيث يعتبر فيروس كورونا المستجد مثالاً هامًا جدًا على أثر الفراشة، ففي بداية ظهوره، كان الفيروس منتشرًا بشكل كبير في الصين فقط، مما أدى لانهيار اقتصادها نتيجة عملية الإغلاق،
لكن نظرًا لأهمية إقتصاد الصين بالنسبة للعالم، تأثر الإقتصاد العالمي وانهارت الأسواق المالية العالمية وتأثرت عوائد السياحة العالمية، وأرباح كثير من الشركات، مما يؤكد بما لايدع مجالًا للشك على أن ما حدث في دولة واحدة يمكن أن يؤدي إلى إنهيار العديد من الدول بل والأكثر من ذلك من الممكن أن يمتد تأثيره ويؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي.
أزمة أوكرانيا:
والآن نستعرض مثال جديد لتأثير الفراشة على الإقتصاد ونعيشه هذه الأيام وقد تمتد تأثيراته لشهور كثيرة أو ربما أكثر من ذلك ففي الوقت الذي يُعاني فيه العالم من أوضاع معيشية صعبة للغاية مع تفشي فيروس كورونا ومع ظهور المتحور الجديد للفيروس “أوميكرون” وتأثيره على الإقتصاد العالمي تشهد الساحة العالمية حالة من الجدل والتوترات السياسية بين كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بشأن الخلاف على أوكرانيا والتي تُلقي بظلالها على زيادة كبيرة في أسعار كلًا من القمح والبترول والغاز الطبيعي مما يمثل تهديدًا كبيرًا للدول التي تعتمد على استيراد هذه السلع من الخارج.
القمح :
ويهدد إرتفاع أسعار هذه السلع دولًا كثيرة تعتمد على استيرادها من الخارج، فعلى سبيل المثال نصف واردات لبنان من القمح يأتي من أوكرانيا، وتستورد اليمن 22%، وليبيا 43% ومصر 14%، كما أنه هناك دول من آسيا تعتمد على القمح الأوكراني من بينها ماليزيا التي تستورد نحو 28%، وإندونسيا أيضًا 28%، وبنجلاديش 21% .
ومع تلويح أوروبا وأمريكا بفرض عقوبات إقتصادية على روسيا في حال تدخلها عسكريًا في أوكرانيا، واحتدام الصراع بين الجانبين فإنه من المتوقع أن تكون هذه الأحداث مثل “تأثير الفراشة” على أسعار السلع والغذاء، وتشهد العلاقات بين روسيا وحلف “الناتو” بقيادة أمريكا، توترات في الآونة الأخيرة، بسبب زيادة وجود الحلف العسكري بالقرب من الحدود الروسية، بذريعة حماية أوكرانيا من تهديد روسي محتمل
حيث يمكن أن تفرز الأزمة الحالية تأثير الفراشة، مما يؤدي إلى إرتفاع أسعار السلع مع تضاعف مشاكل العرض، حيث يكون من المتوقع أن تؤدي العقوبات إلى نقص في كلٍ من الطاقة والغذاء مما يؤدي إلى إرتفاع أسعار كليهما.
الغاز الطبيعي:
ويُعدُ الغاز واحدًا من أكبر التأثيرات المتوقعة في حالة إستمرار الخلاف بين أوكرانيا وروسيا وتطور الخلاف سيؤدي إلى إرتفاع الغاز مع اعتماد أوروبا على الغاز الروسي حيث تزود روسيا أوروبا بنحو 40% من إمدادات الغاز الطبيعي عبر خطوط ممتدة في معظم القارة الأوروبية،
وفي حالة حدوث الصراع فإن الكميات الهائلة التي ترسلها روسيا إلى أوروبا قد تتعطل خاصةً أن ثلثها تقريبًا يأتي عبر أوكرانيا، ومن المرجح في حالة إرتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية أن يؤدي ذلك إلى خسارة روسيا مبالغ كبيرة من إيرداتها في حالة توقف إمداد أوروبا بالغاز،
كما يؤدي أيضًا إلى ضعف الاقتصاد الأوروبي وحدوث اختلالات كبيرة فيه، وقد تستفيد مصر في حالة إرتفاع أسعار الغاز خاصةً بعد أن توسعت في تصدير الغاز الطيعي المسال بعد إعادة تشغيل مصنع دمياط للإسالة.
وفي نهاية الأمر، مايهمنا من نظرية تأثير الفراشة هو إحداث التأثير الإيجابي الذي يغير من هذا العالم نحو نظام عالمي جديد يستطيع الإنسان فيه أن يطور من نفسه ويستفيد فيه من أخطاء الماضي ويعمل من أجل غدٍ أفضل
فالفراشة التي نراها في حياتنا صغيرة وضعيفة جدًا من الممكن أن تحدث تأثير كبير في العالم بأسره، فأنت سيد قرارك فإذا كان القرار خاطئ ستتحمل نتائجه وتبعاته مع البشرية كلها، وإذا كان القرار إيجابي فإن النتيجة الطبيعية لهذا القرار أن تكون كالفراشة التي سوف تُحدِث تغيير إيجابي في العالم كله.
التعليقات مغلقة.