مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

جمل المحمل في شيكاغو 

الحلقة الثانية: ليالي الشرق الساحرة 

3

بقلم: محمد حسن حمادة

بعد مرور عشرة أعوام على مكوث (جورج بنجالوس) في القاهرة التي استهوته وأسرته بأجوائها وطقوسها الساحرة، وبسرعة البرق اندمج (جورج) مع السكان الأصليين، وكون صداقات عديدة، وصارت متعته الأولى الجلوس على مقاهي القاهرة، متنقلا بين قهوة الفيشاوي ومتاتيا، والأنجلو، وريش والبوستة، يستمع مع المصريين (لشعراء الربابة) أي رواة السيرة الشعبية الذين يروون حكايات فلكلورية مسلية من التراث الشعبي، فأحيانا يختلط برواة (الهلالية) أي الذين يروون السيرة الهلالية، وتارة أخرى يجالس (الظاهرية) أي الذين يروون سيرة الظاهر بيبرس أو يذهب (للعناترة) أي رواة سيرة عنترة بن شداد وفي أحايين كثيرة يهجر شعراء الربابة ويذهب (للصيِّيتة) وهم من يحفظون القصص والأناشيد الدينية ويلقونها في المولد النبوي، وموالد الأولياء، انجذب (جورج) للمعلم نور الدين هذا الشاعر النوبي الكفيف الذي كان يجلس بقهوة (الفيشاوي) يتمتع بصوت شجي عذب وبأداء تمثيلي مبهر كان صوته كفيلا بالتفاف الناس حوله، حتى النساء كن يسترقن السمع إلى قصصه وحكاواه من خلف المشربيات، وبالطبع لاتخلو هذه القصص من الإسقاطات السياسية التي ترفض الواقع المرير وتعبر عن حال الشعب المصري، لكنه لاحظ أن أهالي الحارة يطلبون من شاعرهم الضرير إعادة قصصا بعينها، منها قصة (أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة) وأيضا قصة (عنترة بن شداد) فقد كان المصريون يبحثون عن بطل شعبي يخلصهم من الظلم وربقة الاستعمار والخديوي والباشوات والأعيان والإقطاع والفقر والمرض وصندوق الدين والاستدانة، تعرف (جورج بنجالوس) على عم (سلامة المزين) هذا الحلاق الذي لايكتفي بحلاقة شعر الرأس والذقن، بل له أدوار أخرى يقوم بها كختان الأطفال وفتح (الدمامل) وجبر الكسور وعمل (اللبخات) التي توضع على العين، والمدهش أن بعض هذه الحالات كانت تشفى من أسقامها، أما صديقه المقرب (محروس السقا) فقد كان يأتي إليه (بقربته) كل صباح ليسقيه من ماء النيل، وبمرور الوقت اكتشف (جورج) أن صديقه (محروس السقا) هو أيضا له وظيفة أخرى فقد كان يحمل رسائل العشاق وينقلها من بيت لبيت فهو الوحيد الذي يدخل البيوت، فصار رسول الحب والغرام، وقبل أن يغادره صديقه (السقا) يناوله كالمعتاد خطاب السيدة (صوفيا) الإيطالية، وهو يستنشق رائحته المعطرة مداعبا (جورج) (يابختك ياخواجة) فمنذ وصول (جورج) للقاهرة وهذه السيدة ترسل له خطابا في بداية كل شهر بشكل روتيني، يفتحه (جورج) فيجد فيه ورودا ودعوة مفتوحة من السيدة (صوفيا) لجورج على العشاء، لكن هذه المرة كانت الرسالة مختلفة مكتوب فيها (أحتاجكَ بشدة أرجوكَ لاتتركني) ووردتان لونهما أبيض، وهذا إن دل فيدل على أن السيدة تمر بمناسبة جنائزية حزينة، فسأل (جورج) صديقه السقا؟ فأخبره أن السيدة (صوفيا) توفى عنها زوجها، وكان تاجرا ثريا مرموقا وأحد أعيان القاهرة الكبار، فقرر (جورج) حل لغز هذه المرأة الجميلة الغامضة في أقرب فرصة، وفي طريقه يمر (جورج بنجالوس) على حامد (المزملاتي) المسئول الأول عن سبيل (أم عباس) بشارع الصليبة، ذلك الشارع الذى تجاوز عمره السبعمائة عام، ويبلغ طوله نحو نصف كيلو مترا من العمارة المملوكية التي يهيم بها عشقا، ويمتد من ميدان القلعة وحتى ميدان السيدة زينب، لفت نظر (جورج) أن هذا الشارع يتعانق مع شوارع شيخون والركيبة والسيوفية مكونا شكل الصليب، فأصبح ينسب له هذا الاسم! مما يدل على مدى تسامح هذا الشعب، تصطف في هذا الشارع البنايات المملوكية لتُكون لوحة فسيفسائية من الجمال المعماري الأخاذ، مما ساهم في بروز الشارع كصورة مصغرة للقاهرة لانه يحتوي على المسجد، والمدرسة، والسبيل، والخانقاة ولا يقطع هذا التجانس المملوكي فى بنايات شارع الصليبة سوى مسجد (أحمد بن طولون) و(سبيل أم عباس) كان (جورج) مبهورا بالهندسة المعمارية لسبيل (أم عباس) فيدخل السبيل لزيارة صديقه حامد (المزملاتي) وإلقاء نظرة على عمارة السبيل من الداخل، فيحتفي به (المزملاتي) على طريقته الخاصة، بإعطائه كوب ماء مثلج محلى بماء الورد، ليشربه الخواجة على (غيار الريق) لكن مازال سبيل عبد الرحمن كتخدا بشارع المعز هو الأقرب لقلب (جورج) فقد بُني على طراز يمزج بين العمارة المملوكية التي يهواها والعمارة العثمانية التي يقدرها في تناغم عجيب.

ورغم كاثوليكية (جورج بنجالوس) المتشددة فقد كان يبحث عن الجانب المشوق والمثير في الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية في مصر على حد زعمه وهذا مايفسر لنا سر انجذابه لدراويش الحسين حول المشهد الحسيني وهم يقيمون حلقات الذكر، عشق (جورج) سحر الشرق التي تفوح رائحتها في الموالد فحل ضيفا دائما على موالد القاهرة، يرقب المصريين البسطاء في صمت وهم يحتفلون بهذه الموالد، توقف كثيرا أمام ظاهرة ارتباط أغلب الموالد المصرية بالشهور القبطية واحتفالات الآلهة المصرية القديمة لدى الفراعنة، وفي مولد الإمام الحسين كرم المصريون (جورج) بلفتة طيبة، أسرت (جورج) وأثرت فيه، حيث نصبوا له دكة خشبية مرتفعة وأجلسوه فوقها بجانب المداح، وألبسوه عباءة سوداء وعمامة حمراء، كان (جورج) في حالة من النشوة التي لاتوصف لدرجة أنه شعر بأنه الخليفة هارون الرشيد في زمانه، وأن المصريين بعد حفلة التنصيب هذه قد نصبوه ملكا متوجا على عرش قلوبهم، شوهد (جورج بنجالوس) وهو يضع يده على الضريح ويوقد الشموع ويقوم بمحاكاة المصريين،

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب: أحلام ضائعة

ويضع مبلغا ماليا بصندوق النذور، لكنه لم يفهم معنى التبرك بالولي واستصراخ المصريين بهذا الولي وطلبهم منه مدهم بالمال والبنين والعون والمدد، لم يلحظ أي فرق بين الاحتفالات الإسلامية والقبطية، بل أثار دهشته أن المسلمين يحتفلون مع إخوانهم الأقباط بمولد السيدة العذراء في وئام وسلام، كما شارك (جورج) المصريين طبق الفول والطعمية وصار من هواة الأرجيلة، ولم يعد لديه غضاضة في ركوب الحمار وارتداء الجلابية والعمامة والشال وتقليد المصريين في ملبسهم ومأكلهم، يكون (جورج) في أسعد حالاته عندما تدعوه بعض الأسر المصرية على العشاء وخاصة في المواسم والأعياد، وبمرور الوقت وجد نفسه يقف بجانب الطلبة والأفندية والصبية الصغار ليستمتع بلعبة التحطيب ومشاهدة الأراجوز أو الحاوي أو خيال الظل، ويوم الاحتفال بيوم الوفاء الذي يسمى أيضا (عروس النيل) يخرج مع المصريين إلى جزيرة الروضة يحتفل معهم بفيضان النيل، وفي منتصف شعبان تبدو القاهرة بلباس جديد استعدادا لشهر رمضان، تتزين فيه القاهرة وتأخذ زخرفها وتكون في أبهى حلة، حيث يبدأ الأطفال في تعليق الزينة والرايات استعداد للشهر الكريم، روائح شهر رمضان في منطقة القلعة والحسين والأزهر والغورية والسيدة زينب لها مذاق خاص، تفوح بطعم البهجة والسعادة، وها هو مليك البلاد يدعو طوائف شعبه للإفطار معه في قصر عابدين، وعلى صوت طلقات مدفع الإفطار تبدأ فرحة المصريين حيث تعتبر هذه الطلقات بمثابة تصريح رسمي للصائمين بالإفطار، ومن أذان المغرب تضيء المآذن، فينظر للقلعة التي تبدو كعروس في ليلة زفافها تتزين بالأضواء والزينة فيتغير شكل القاهرة، يصعد (جورج) إلى مسجد محمد علي بالقلعة ليرقب المصريين وهم يصلون صلاة التراويح ببهجة وخشوع، يصاحبهم الأطفال بفوانيس رمضان، وقبيل أذان الفجر يلهث إلى شرفة بيته لرؤية المسحراتي هذا الكائن الغريب العجيب الذي خرج لتوه من كتاب ألف ليلة وليلة، يلحظ إحدى النساء تقذف للمسحراتي ريالات فضية تضعها في ورقة ملفوفة وتشعل فيها النار حتى يراها المسحراتي، إنه الكرم المصري الذي لايدانيه كرم رغم ضيق الحال، فوجد نفسه بطريقة لاشعورية يفعل مثلما فعلت المرأة المصرية ويرمي للمسحراتي بريالات فضة في ورقة ملفوفة أشعل فيها النيران وهو في منتهى السعادة، وفي أواخر شهر رمضان يكتشف أن المسحراتي هو صديقه محروس السقا! أما الأعيان فرغم مايتحلون به من شحنة إيمانية في نهار رمضان لكنهم لايتورعون عن مجاراة نسائهم عندما يقومون بدعوة (العوالِم) ليلا لتجد هذا الرجل المتشدد الذي يبتعد عن الموبقات في نهار رمضان، لايتورع في ليله الجلوس بجانب زوجته على الأريكة الكبرى بصحن البيت ينظر (للعوالِم) ويراقصهن ويتفحص عوراتهن.

سُر جورج عندما تلقى دعوة ملكية من القصر الملكي لحضور احتفالية موكب زفة جمل المحمل الذي يحمل كسوة الكعبة وسيتوجه للأراضي الحجازية، فيذهب جورج لميدان القلعة ويقف مذهولا يشاهد الاحتفالات لأحد الطقوس الشرقية الأسطورية لم يعهده من قبل، الأطفال والرجال والنساء يتسابقون للمسه طلبا للحصول على البركة، الجنود مصطفون بكامل أسلحتهم وبملابس التشريفة، وعلى يمينهم يجلس شيخ الأزهر والعلماء والأمراء والوزراء والأثرياء وكبار مسئولي الدولة وفي الجهة المقابلة يجلس كبار موظفي (الديوان الخديوي) وفي الصف الذي يليهم يجلس قادة الجيش والجميع على أهبة الاستعداد في انتظار تشريف جناب (الخديوي) وبمجرد وصوله بدأت مراسم الاحتفال بشكل رسمي وتم إطلاق إحدى وعشرين طلقة مدفعية، ثم عزفت الفرقة الموسيقية الملكية السلام (الخديوي) حيا (الخديوي) الجميع بابتسامة ودودة ثم أشار للجميع بالجلوس، بدأت الفقرة الأولى بقراءة ماتيسر من القرآن الكريم من سورة الحج، بعدها أشار الخديوي لمسئول الكسوة ليدور بجمل المحمل ثلاث دورات متتالية بطول وعرض الميدان، ثم توجه (للخديوي) بكيس مفتاح الكعبة فوضعه (الخديوي) على جبينه تبركا ثم قام بتقبيله ثم ناوله لقاضي القضاة الذي بارك المحمل بآيات من القرآن الكريم وبمجموعة من الأدعية وبعدها قُدمت العطايا والهدايا، أما الفقرة التالية من الحفل فبدأت بامتطاء أمير الحج جواده ومن ورائه هودج المحمل الخشبي المغطى بقطع من القماش المزخرف بآيات من القرآن الكريم المنقوشة بالذهب تارة والفضة تارة أخرى ليتم عرض كسوة الكعبة على الحضور بحراسة الجنود، أعقب ذلك استعراض بعض قوات الجيش وتحديدا من سلاح الفرسان بصحبة حامية ركب الحجيج المصري، وبعد انتهاء الاحتفالية توجهت زفة المحمل إلى شارع محمد علي ومنه إلى شارع سوق السلاح ثم إلى الدرب الأحمر ومنه إلى باب زويله ثم الغورية فالسكة الجديدة حتى وصلت الزفة لميدان الحسين، لتجد في استقبالها أمين الصرة ثم ينضم إليه أمير الحج، فيدخلان إلى ضريح الإمام الحسين، وبعد ذلك يقوم ناظر المالية وقاضي القضاة ومعهما أمير الحج وأمين الصرة بتوثيق إشهاد شرعي بتسليم كسوة الكعبة، كان الموكب يسير على أنغام دفوف وطبول شيوخ الصوفية الذين يرفعون الرايات ويرتدون الملابس الخضراء، فترقص الخيول وتتزين المحلات والشوارع، يصاحب ذلك ضجيجا وصخبا وانضمام خلق كثير من كل حدب وصوب، وفي كل خطوة تزداد الجموع لتصبح الزفة أكثر مهابة، لايقطع هذا الجلال والوقار إلا زغاريد النساء، بعدها يسلم الحاكم أمير الحج وقواته سرة مليئة بالجنيهات الذهبية المصرية، والأحجار الكريمة وهدايا قيمة لأهالي الحرمين الشريفين، لتنفق هذه الأموال على إعمار الحرمين الشريفين وإصلاح طرق الحج وموارد الماء، بعدها يتحرك موكب المحمل إلى ميدان العباسية ليبيت ليلته الأخيرة في القاهرة، وفي صبيحة النهار التالي يتحرك موكب المحمل باتجاه ميناء السويس لركوب البواخر، باتجاه ميناء جدة، وبعد أداء فريضة الحج يعود المحمل المصري محملا بالكسوة القديمة للكعبة التي تُقسم إلى قطع وتوزع على الأمراء، والنبلاء والأعيان وعلية القوم، وأصحاب الحظوة، أما جمل المحمل العائد فيصير جملا مبروكا، يلقى عناية خاصة من قبل الدولة والأهالي، وتوكل الحكومة المصرية شخصا يكون مسئولا عن طعامه ونظافته ولايسمح بذبحه أبدا أو حتى استخدامه في أي عمل ويعود لدار الكسوة لتكون مستقره حتى الممات، فيتعامل معه المصريون بشكل أشبه بالتقديس فقد خصه الله بحمل كسوة الكعبة وزيارة رسوله الكريم وصار هذا الجمل يُصنع في قوالب من الحلوى ليكون ضيفا أساسيا على مائدة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.

ورغم ماتملكه مصر من تراث وعمائر ومارآه (جورج) بعيني رأسه من عشق المصريين للتاريخ والتراث يبيعون آثارهم للأجانب بثمن بخس، ويتعجب (جورج) عندما يمر بأحد شوارع القاهرة فيجد أحد الصعايدة يبيع إحدى الموميات الملكية وبعض الكنوز الفرعونية التي لاتقدر بثمن، إنها القاهرة بكل متناقضاتها! وبنفس الوتيرة مر الوقت على جورج بالقاهرة حتى عام 1890. هذا العام كان بمثابة علامة فارقة في حياة (جورج بنجالوس) وتاريخ مصر، حيث قرأ (جورج بنجالوس) بالمصادفة خبرا بإحدى الصحف عن معرض (شيكاغو) ومنذ هذه اللحظة ملأه الشغف، فقد كان يشعر أنه ليس أقل من أبطال ألف ليلة وليلة، بل إنه قادر على صناعة ليالي جديدة في بلاد الغرب، يكون هو بطلها الرئيسي، فقرر في لحظة مجنونة إعادة الزمن إلى الوراء، والعودة للعصور الوسطى، وإعادة إنتاج ليالي ألف ليلة وليلة ونقل سحر الشرق وبريقه ونقل القاهرة وشارع المعز تحديدا بكل مايحويه من آثار، وعمارة، ومساجد، وأسبلة إلى قلب (شيكاغو) لكن كلما تزود بمعلومات عن المعرض وتجهيزاته يصاب بالإحباط، ويسأل نفسه هل مصر تستطيع المشاركة في هذا المعرض؟ وإن شاركت ما الذي ستقدمه للعالم؟ وهل ستسمح الحكومة المصرية بالاشتراك في هذا المعرض؟ لكن المعضلة الكبرى أن مصر ترزح تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي فكيف ستشارك وهي دولة محتلة؟

ورغم تيقنه من صعوبة الأمر لكنه عزم على المحاولة فقد كان يعتقد أن مصر بحاجة لصدمة حضارية كبرى حتى تفيق من غيبوبتها وتعود لركب الحضارة من جديد، وحتما هذا المعرض سيفتح عيون مصر على الحداثة والاكتشافات والاختراعات، فبدأ بالفعل باتخاذ خطوات عملية حتى تكون مصر في قلب العالم الجديد، فتقدم بطلب رسمي لمقابلة الخديوي توفيق للسماح له بالمشاركة في المعرض، وافقت السراي على طلبه، التقى (جورج) بالخديوي توفيق وانفرد به لمدة نصف ساعة، استطاع فيها انتزاع موافقة الخديوي المبدئية، ثم طرق (جورج) الحديد وهو ساخن، فشرع في خطوته الثانية وبحث عن مهندس موهوب يساعده في بناء الجناح المصري بمواصفات خاصة، حتى يكون الجناح المصري بشيكاغو جناحا مميزا يخلب الألباب، وقع اختياره على المهندس المعماري (ماكس هيرز) ذي الأصول المجرية المنتمي لأسرة يهودية وفي نفس الوقت كان (ماكس) هو المسئول الأول عن لجنة حفظ الآثار العربية، أحسن جورج الاختيار (فهيرز) هو البطل الذي أنقذ القاهرة التاريخية من الاندثار، فهو مهندس معماري ومصمم مباني بدرجة عاشق للآثار، يحفظ القاهرة الإسلامية بكل تفاصيلها عن ظهر قلب، وبمجرد أن التقى (جورج) (ماكس هيرز) وشرح له فكرة المعرض تحمس (هيرز) بشدة لكنه اشترط موافقة أعضاء لجنة حفظ الآثار العربية وبالفعل استصدر جورج موافقة اللجنة، لكنهم اشترطوا أن يعمل (هيرز) في غير أوقات العمل الرسمية، وقد كان، وفي نهاية ديسمبر 1890. شد (جورج) الرحال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، للحصول على حقوق إقامة المعرض بصفة حصرية، ورغم أن الوقت كان مبكرا، فلم تكن إدارة المعرض قد وضعت تصورا كاملا للمعرض بعد، لكن من حسن حظ (جورج) أن معظم أعضاء اللجنة المشرفة على المعرض تحلوا معه بالمرونة الكاملة، وتفهموا حماسه، بل انبهر بعضهم بشرحه وتصوره للجناح المصري، فوافقوا على طلبه بمشاركة مصر في القسم الثاني من المعرض الذي سمي (ميدواي بلايزانس) الذي يحتوي على عروض الدول الأجنبية والثقافات الغريبة على المجتمع الأميركي، يسمح فقط بإقامته عبر رجال الأعمال الأجانب، الذين يحق لهم الحصول على امتيازات إقامة الأجنحة لصالح شركاتهم الخاصة، وخصصوا له استخدام قطعة أرض تبلغ مساحتها مايقرب 4600 متر مربع لإقامة جناح القاهرة، سهل مهمة (جورج) أن معظم أعضاء اللجنة كان لديهم سابق معرفة وفكرة جيدة عن مشاركة مصر السابقة في معرض باريس الدولي 1889. لكن كان للقدر حسابات أخرى، فقد كان بانتظار (جورج) مفاجأة من العيار الثقيل قد تقوض كل خططه ومشاريعه رأسا على عقب وتقضي على أحلامه، فعقب عودته من بلاد العم سام وهو محمل بأكاليل الغار، داهم المرض الخديوي توفيق، وبعد عدة أيام أعلن القصر نبأ وفاته.

التعليقات مغلقة.