جواهر من كتاب الجمال المحمدي
لفضيلة الشيخ -فوزي محمد أبوزيد
ورد في صحيح السيرة النبوية أن الله عز وجل طهره على يد السفرة البررة الكرام من الملائكة أربع مرات.
1) المرة الأولى وكان عنده أربع سنوات :
عندما كان يرعى بالغنم مع أخواته في الرضاعة عند أمِّه من الرضاعة السيدة حليمة السعيدية رضي الله عنها، ويحكي هو هذا الخبر، أنهم أخذوه وانتبذوه جانباً، وأرقدوه على ظهره، وتقدم أحدهم فشق من صدره إلى منتهى عانته، وتقدم الآخر فأخرج قلبه ووضعه في طست، وأخرج منه شيئاً وألقاه وقالوا: هذا حظ الشيطان، ثم تقدم آخر ورده إلى حالته، وقال له يا حبيب لا تُرع (أي لا تخف).
والسالك في هذا المقام أول ما يُخرج من قلبه حظ الشيطان من الوساوس، والهواجس، والمكر، والدهاء، والشهوة في حب الظهور، والرغبة في الرياء … وغيرها من البضاعة الشيطانية التي أمرنا أن نتخلص منها رب البرية عز وجل ، وهذا في مبتدأ الطريق.
إذاً أهل البداية عليهم أولاً التخلص من وساوس الشيطان، وهلاوس الشيطان، وهي سر كل المصائب بين الصغار والكبار، تمر المصائب هذه إلى سوء الظن، وسوء الظن يؤدي إلى الغيبة، وبعدها إلى النميمة، وبعدها إلى القيل والقال، وبعدها إلى السب والشتم، وبعدها إلى القطيعة، وبعدها إلى الهجر والخصام، كل ذلك سببه الأول وساوس الشيطان.
>>>> فلا بد للسالك أن يقضي على وساوس الشيطان، ويستعين على ذلك بربه، ويجاهد نفسه ثم يطلب من الله أن يعينه على ذلك، حتى يجتبيه مولاه فيدخله في قوله:
( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) (42 – الحجر)
فيكون من أهل هذا المقام، وصاحب هذا المقام يفر منه الشيطان، فقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن رجل من هؤلاء وهو السيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
( مَا سَلَكَ عُمَرُ وَادِيًا قَطُّ فَسَلَكَهُ الشَّيْطَانُ ) – تاريخ دمشق لابن عساكر، وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل عن أنس رضي الله عنه
يفر حتى من الشارع الذي فيه عمر خوفاً من أن تحرقه أنوار الله التي تحصن قلب عمر رضي الله عنه .
2) المرة الثانية كانت وعنده عشر سنوات:-
ويحكي عنها صلى الله عليه وسلم أنهم أرقدوه، وأخرجوا من قلبه الغل والحقد وملأوا قلبه بالشفقة والرحمة والألفة لجميع خلق الله، وهذه المرحلة الثانية في الجهاد:
( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) (47- الحجر)
العجب ممن يدق على باب مولاه، ويطلب منه تحقيق مناه وقلبه إسْوَدَّ من الحقد والحسد لعباد الله، أيحدث ذلك في مُلك الله ؟!!
وأشد أنواع الحسد؛ الحسد على فضل الله وإكرام الله، فالحسد على الدنيا والمال والأولاد أمره سهل، لكن هذا النوع يقول الله فيه معاتباً على صانعيه:
( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (54- النساء)
لم يقل: (ما آتاهم الله من خيره) ولكن: (من فضله) ففى ( 4 – الجمعة):
( ذلك فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
ولذلك قال سيدي جعفر الصادق : نحن المعنيون بهذه الآية، فنحن الذين عندنا فضل الله الذي يستوجب الحسد في الآية التي ذكرها الله في كتاب الله، كأن يحسد إنساناً على الفتح الغيبي أو الفتح الوهبي، أو يحسده على الاستقامة التي عليها هذا الرجل، والإكرامات التي يتنزل بها الله عز وجل لهذا العبد، فهذا أشنع أنواع الحسد التي حذر منها الله عز وجل في كتاب الله ، لأنه بيَّن أن من حسد على ذلك باء بغضب الله وسخطه:
( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) 31-32الزخرف)((
لكن الأشياء الأخرى من فضل الله وإكرام الله خالصة بيد الله جل في علاه.
3) المرة الثالثة كانت عندما تنزَّل الوحي عليه :-
بعد أن مكث في غار حراء شهوراً يشرف فيها على تطهير قلبه، وعلى صفاء فكره، وعلى تسليم نفسه لله عز وجل ، فلما وصل للمراد تنزل الله عز وجل عليه بالوحي الإلهي، ولأنه كان في هذا الوقت في مقام العبودية الكاملة لله، فقد كان يرى نفسه غير أهل لهذا العطاء، وغير جدير بهذا الفضل، وهذه سيما أهل العبودية لله على الدوام، فنزل الملائكة وشقوا صدره ليُثبِّتوا قلبه وجنانه لكلام الله عز وجل : (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) (32 – الفرقان).
4) المرة الرابعة عندما أهَّله الله لفيض فضل الله، ونيل درجات القرب كلها في ملكوت الله وفي قدس الله :
وهي مقامات لا يستطيع أحد من السابقين ولا اللاحقين عدها ولا حصرها، فقد رأى كل ما في عالم البرزخ، ورأى كل ما في عالم الملكوت، ورأى كل ما في عالم الجنان والنيران، واطَّلع على كل ما في اللوح المحفوظ، وعلى الغيوب الإلهية التي لا ينبغي أن يطلع عليها أحد سواه، لا من البشر ولا حتى من ملائكة الله أو أنبياء الله، وشهد المشاهد التي يقول فيها الله في كتاب الله:
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى#( ) (10- النجم)
فكان سراً من سره لا يطلع عليه ملكٌ مقرب أو نبي مرسل، فشقوا صدره وأخرجوا قلبه وغسلوه بماء زمزم ثم ملأوه إيماناً وحكمة ، وهذه هي مراحل الوصول إلى الله عز وجل التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم …