وشمٌ في ذاكرتي ” قصة قصيرة”
بقلم – ليلى المرّاني -العراق
دهشتُ إذ رأيتُه، عقود طويلة انصرمت، ألقت كلّ ما كان في دهاليز النسيان مسحة من حزن قديم وعميق، وذهول، وجسم بالغ في نحوله، يدٌ مرتعشة رفعها ليمسح عرقاً تصبّب من جبهته، وبعيدًا.. بعيدًا إلى أعماق ذكريات دفينة، طار بي جناحا ذاكرتي التي توثّبت فجأة، أنا النحلة، ارتشفت من الأزهار رحيقها، وطرت، فراشة، لم تحدْني حدود، ولم ينكسر لي جناح، وهو، ابن عمّ لي من الدرجة الثانية، نظراته الولهى، أدركتها، وسخرت منها، حيرته وارتباكه يثير غروري؛ فأضحك، عبثيّة جذلى في تحليقي بدون قيود.
دخان السجائر، وكآبة المكان أطبقا على صدري، كدت أختنق، والذكريات تحاصرني، وشبح قريبي، جالس على مسافة ليست بالقصيرة، يحفّزني أن أترك المكان، و أطير، أطير إلى أين، وقد ترهّل جناحاي، وروحي أصابها الصدأ.
المناسبة نفسها، رأيته فيها قبل عقود، حفر الحزن أخاديد على وجهه الشاحب. الأنظار متّجهة إليه، متعاطفة معه، مستفسرة عمّا يؤول إليه مصير طفلين، اختطفت أمّهما في لحظة غدر، صغيرة لا تزال، في عزّ شبابها وتفتّح أنوثتها، حين سُرقت من بين أحضانه، وبكلّ عنفوان حبّه لها، وبكلّ ما تكدّس من حزن، أقسَمَ ألاّ تدخل بيته امرأة أخرى، الصغيران سيكونان امتداداً لحياة زوجيّة قصيرة.
رغبةٌ ملحة، وفضولٌ كبير سيطرا عليّ، ” أنا.. ألا تتذكّرني؟ حلم طاردك في نومك؛ فعذبك ” صوتٌ في أعماقي كاد ينطلق .
المكان والمناسبة، لا تشجّعان أن أدنو إليه، وجومٌ وحزن كثيفان، تعكسهما وجوهٌ صامتة، وهمهمات مكتومة تنطلق بين حين وحين، أكواب القهوة العربيّة المرّة ما انفكّت ترتشفها جرعةً، جرعة وبتلذّذ أفواه أبت أن تنطق؛ بتردّد، اقتربتُ منه، جفل، ونظرة غائمة طافت على وجهه، وهمست بصوت مخنوقً..
ـ نعم، أنا هي، هل تذكرني؟.
شبح ابتسامة حزينة طاف على شفتيه، ابتلعها سريعاً، وجدتُني أهمس..
ـ .ألا يزال أولادك معك؟.
ـ تزوّجا، وأنجبا.
قال محاذراً، وساد الصمت من جديد، وأطبق سكون مطلق، رائحة القهوة تعبق في المكان، وهمسُ المعزّين يكاد لا يسمع، وقريبي تائه النظرات، يرتدي صمته. محاولتي في استدراجه إلى حديث قصير، تعثّرت، ثم تلاشت، وفي محاولة أخيرة أن أكون منقذاً لذلك الغريق..
ـ هل أحصل على نمرة هاتفك؟. قلت بتردّد،.
أطرق، ومتعثّرة خرجت كلماته..
ـ قبلك كثيرون وضعوا نمرة هاتفي في دهاليز النسيان.
صفعتني كلماته الحزينة وبخجل ابتسمتُ..
ـ سأتّصل، ثق سأتّصل.
وبكلّ يقين. وبكلّ ما حملته من ندم على نسيان تلك اللحظة سنين وسنين، اتّصلت..
ـ ليس هنا.
أجابني صوت امرأة بجفاء..
ـ أنا بنت عمّه.. أريد أن أطمئنّ عليه.
أحسست أنَّ يداً خرجت لي من الهاتف، وصفعتني، وضحكةٌ ساخرة تصاحبها..
– انتظرك طويلاً ابن عمّك،
وبعنفٍ خفق قلبي، ودورة كاملة لشريطٍ سينمائيّ احتلّت ذاكرتي. معادلة صعبة ثلاثيّة الأبعاد والرموز، هو، وحبّ من طرف واحد، وغرور صغيرة، فراشةً كانت، للتوّ مزّقت شرنقتها وحلّقتْ، وحفنة سنين محت رموز المعادلة.
ـ أين هو الآن من فضلك؟.
سؤال خائف تسلّل من فمي..
ـ في دار العجزة، أصيب بالزهايمر !.
التعليقات مغلقة.