مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

هيفاء البكر

بقلم – أحمد بو قرّاعة : تونس

أمسى غريبا في أعين الناس، وأمره أمسى مسترابا. وأمسى قليل المحادثة رغم سرد الناس عنه عجيب المقال وطريف الكلام. ورغم طلب الناس مجالسته إلا أنّه قد أمسى طالبا للهجر والمباعدة. إذا اشرقت شمس الصباح التفت الى المغرب كأنه يطوي في نفسه المكان والزمان. وإذا أظلم الكون غاص من نظره في ظلمة السماء كأنّه يحدّق فيما خلفها.

يعمل رغم حذقه صناعة الزجاج، ما يدفع عنه الجوع ويقي جسمه حرًا أو بردًا. إذا سأله بعض خلّانه في صناعته قال :” من تراب أو رمل ينفخ فيه النافخ بنار فيستوي أشكالا …” ثم يبتسم ابتسامةً خفيفةً لم يعرف أصدقاؤه أهي سخرية أم توجّع أم مخزون رئة غصّت بالدخان أم مجاملة جلّاسِ لألفةِ وإيناسِ ليقول:” كذا العمر كالزّجاج اذا تكسّر لا يعاد له سبكُ.”

أمسي فريدا، وقد كان ذا صحبة، وكثيرًا ما أمسى لنفسه رفيقا، وقد كان ذا رفقة وليس يدري أحدٌ هل في وحدته هو بنفسه رفيق ولها صديق.

واعتقد بعض الناس انه تحوّل صوفيّا ما تحت الجبّة سوى الله ساكن في أعماقه مسكينا لفظ الحياة أو لفظته ومنهم من يقول إذا سمع منه كلامًا وزنًا ومعنى ذاهبا في الايغال ومقصدًا يحار الوهم فيه تخييلا” إنّ المعرفة تُورثُ النّصب والنّصب يُوجع النفس ويقطع الأنفاس. “ومن الناس من أوغل فيه قبحًا جاء لا يعلم من أين ولكنه أتى ربّته عاقرٌ أحسنت اليه وعلّمته. وأحزنه قول الناس فيه ذلك. وما سمع منهم جميعا قولا الا إبتسم تلك الابتسامة المبهمة، وما سمع قط أذيّةً الا طأطأ لها رأسه حتى تمرّ وذلك ما زاد الناس  فيه حيرة.

كان بيت أهله الى جوار حديقة تحكي أشجارها قدمها .بها برك ماء ونافورة ومقاه ومساحات ترفيه وألعاب حديقة يهرع الناس اليها هربا من ضيق السكن وزحمة الشوارع، ويحبها الأطفال للّعب ويدمنها الباحثون عن العيون التي في طرفها حور وحول وتقصدها اللاواتي يبتن في غير سريرهنّ حديقة هرّأت الأقدام أرضها وحفّر العابثون جذوع أشجارها ولم يبق فيها سوى قرد عجوز وفيل تكسّر نابه كسولِ وأسد استأنس فعاد كأنه سليل كلاب الديار، وفيها طير الأسطح وحمام يلتقط ما يلقي الصّغار.

قد يهمك ايضاً:

قصيدة: دكان قديم عند المقام

أيها العابرون

 كان جالسا الى صديق في مقهى الحديقة. نساء و رجال وخلق مختلفٌ كثير. جارِ وماش وقاعد وساكن رصين وصائحٌ متهافت وجميل ومتجمّل وعيون هادئة وأخرى مغازلة. وبلحن مطرب هزج “بات يغني عميد القلب سكرانا” صدح العندليب بصوت مؤنق: “جلست والخوف بعينيها ….. قالت يا ولدي لا تحزن…”

“يا ولدي لا تحزن غرّنا ظاهرها وأعمانا جوارها وقربها. ولعمري إنّ العيون لتخطئ واليقين لا يدركُ إلاّ بالعراء والتعرية، وأما الجوار فالمعروف مُبْعِدٌ كل ظنّ وشكّ وريبةٍ لقد كانت أجمل بنات الحيّ. ثوب نقي يكسو لحما طريًّا يكاد يكشف عن عظم صحيح قوي وجهٌ زهر يسقيه طلّ الرياحين عبقا وعطرًا عينان غابة تخيل ساعة السحر وخدان منهما الاقحوان وثغر يفرّج عن لؤلؤ مكنون و سحر الناافثتين في العقد شعر لو تعرّى سبائك من ذهب يزيّن قدّا مقدودا وظلا ممدودا أردتها زوجة لك تنعم بها والى جوارها لذّه للعين وللشار بين مزاجها كافور وزنجبيلا. هيفاء وهي بكر.”

و بصوت كاد يسمعه رفيقه همس”أصبحت أطوع خلق الله كلهم”

فتلقّفها منه صديقه و قد كاد يألف منه ما ينفلت من شفتيه فقال له:  “إنّما الطّاعة من الإستطاعة و مصاحبة النفس للراحة و الأمن” فالتفت إليه راضيا عنه. و شغلته كلمة “مصاحبة” و مسح بيده وجهه فانغمضت عيناه و كاد يرى من ربّته واقفة أمامه ترتّب هندامه و تبعد شعرا عن عينيه فرحة به تقول: ” ستصبح بها يا ولدي أسعد الناس و ستصبح الخير و المتعة و الرّفاه و النعيم، تشرب من تسنيم و تجني فاكهة و تخلد في السرّاء فأنت سامرّاء، ستصبح أبا يداعب أولادا من فتاة عشقها من رآها و من سمع بها،  فما حال من سيزيل إذن قشرتها عن حلاوة و طراوة حبّتها .

و فتح عينيه فرأى الساحة عامرة باللهو و اللعب و بدأت شمس الأصيل تنذر باحتضار نورها. وهفت الكبار و سرح الشباب بين فرح برفقة لليلة و بين من تثاقلت خطاه خيبة. و تهافت الصّغار يتسابقون و يتراشقون بالورق يكوّرونه أو بقشور بعض الفواكه  و الغلال. و يسمع بعض العمّال يقول: ” تعب كلها الحياة… حظّنا أن نجمع القشور” فطأطأ له رأسه و عاد يذكر تلك الليلة. ليلة غلّقت عليه و على زوجته الأبواب. وأبدت هيفاء حشمة و حدّثت عيناها:بِ “هيت لك” ثوبٌ فضفاضٌ زينةٌ و وجهٌ تأخذ منه الزينة بعض حظّها و تحضُّ. و امتدّت يدي تقبّل يدها فارتدّت خاسئةً و ارتدّت شفتاي من غبرة علقت بهما أنكرها لساني كالملح. و مددتُ يدي أنزع عن رأسها تاجا فانسحب معه شعر قد تدلّى مذهّب مستعار و كشف عن آخر أسود مجعّد لا يطال أذنيها. و قلت في نفسي لعلّ فستانها الفضفاض الجميل يخفي أرضا عذراء خصبة نديّة و طريّة سهلة الحرث تمنّي بزرع يهيج أغيظ به الحاسدين. و لمّا أسدلت الضياء عن الظلام ظهرت ركيزتان ضعيفتان مستقيمتان فوقهما قفص يكاد يكشف عن عضلة تضخُّ ضخَّ المتعب و لا وسط بينهما و للقفص مجدافان طويل و قصير  فمسست الطويل فوخزني القصير فأصاب وجهي و أدمى عيني، فانسحبت خائفا مذعورا أقول في نفسي: ” لعلّها ليست ممّن خلق في أحسن تقويم”.

و بعد صمت طويل سمعه رفيقه يقول” كانت تبدو مسرة للناظرين… فأمسيت بعد ذلك…”

فقال له صديقه بصوت مرتفع: نعم لقد ذهب المساء و غادر الحديقة كلّ من كان يسرّ الناظرين و لم يبق فيها غير أشباه القبح. فهلّا عدنا. فتركا المكان على صوت العندليب: ( قد تغدو امراة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا… و طريقك مسدود يا ولدي…)

التعليقات مغلقة.