الكل مازال يتذكر محمد أبو سويلم تلك الشخصية التي جسدها العملاق المرحوم محمود المليجي في رواية الأرض للكاتب الكبير المرحوم عبد الرحمن الشرقاوي في أذهان من شاهد الفيلم الرائع أن الأحداث وصفت زمنا غير الزمن الذي تناولته الرواية الرائعة ” الأرض” فمن قرأ الرواية استمتع علي ما بها من أحداث في الوقت الذي لم يتطرق الفيلم إلي الجانب السياسي الذي أبرزه الشرقاوي بالرواية ، الذي تلخص في أن وراء تعذيب محمد أبو سويلم ودياب وغيرهم وتخريب أرضهم لكونهم من مؤيدي الوفد فكان جزاؤهم ما حدث من جلد وتعذيب
استقبال صدقي
لقد شعر عبد الهادي وهو في السجن أنه والوفديين أقوي من الحكومة في مصر وقال إن يسجن كل الذين في عداوتهم لخطب الشعب
لأنها تعرف أنهم سيسألون الوزارة أثناء زيارتهم عن الدستور الذي ضاع وعن الانتخابات الزائفة
ظل عبد الهادي ومحمد أبو سويلم ودياب وهم فى سجن المركز يسمعون الأحاديث في الحجرات المجاورة وقال المأمور إن أصحاب المعالي وزراء حزب الشعب يشرفون المدينة في الساعة العاشرة تماما وجريدة الناطقة بلسان الشعب.
وقال المأمور ثم استمر يشرح بنفس الهدوء نظام استقبال الوزراء ويعلن مكان الفلاحين فهذا الاستقبال فهم بعد ساعة سيخرجون تحت الحراسة ويوزعون علي أرصفة الشارع في طريق موكب الوزراء إلي قصر الباشا من محطة السكة الحديد إلي نهاية المدينة وحضره ملاحظ البوليس لديه أوامر بأن يعطيهم الإشارة بيده وأن ذاك قاطعه رجل يسأل ببساطة نقول إيه تحيا مصر ولا يحيا العدل ولا يحيا الوطن.
وفي نفس الهدوء أشار المأمور إليه وأكد له أنه أيضا سيربط مع الثلاثة الآخرين في إسطبل الخيل طوال النهار وعاد ليكمل بهدوء فقال الفلاحين أن عليهم أن يهتفوا معا يعيش جلالة الملك المعظم … يحيا حزب
الشعب … يحيا صدقي .
يجب أن يكرروا هتافهم ” يحيا صدقي” وعليهم أن يقولوا هذا الهتاف بنغم.
نغمة يحيا سعد
وبدأ المأمور يلقي هتاف ” يحيا صدقي ” بنغم متناغم راقص وهو يصفق بيده علي النغم وابتسم رجلان وحاولا إخفاء الضحك فر أهما المأمور وارتفع صوته وهو ينهمر عليها بالشتائم والصفعات وأمر الجنود أن يضربوهما ويواصل المأمور كلامه ياللا معايا ع الواحدة يحيا صدقي يحيا صدقي وترددت أصوات الفلاحين متكاملة بلا نغم فليحيا الملك يعيش حزب الشعب يعيش صدقي وأقسم المأمور أنه لو ضبط واحدا فيهم يهتف بلا سرور أو متلبسا بالكسل فمصيبته سوداء وليلة بلده كلها طين. علي النغمة يا غنم انتم زمان منتوا بتقولوا إيه أيام الهوجة ؟ مش بتقولوا يحيا سعد تما النغمة نغمة يحيا سعد!! وفي الانتخابات بتتنيلوا تقولوا إيه: يحيا الوفد مش كده أهي يحيا صدقي.
تماما علي نغمة يحيا الوفد قلوها علي نغمة يحيا الوفد.
ويوصل عبد الرحمن الشرقاوي سرد تحضير الزيارة ورشقت أسطح البيوت بنساء كثيرات ولوح المأمور من علي حصانه الأبيض: زغرتي يا مرة منك لها ، وصاح المأمور وهو يترقب الهتاف: علوا أصواتكم شوية بحماس شوية كده هزوا أيدكوا واترقصوا علامة الابتهاج يا غنم اترقصوا واهتفوي ع الوحدة .
تحيا مصر يحيا الوفد
وقطع الموكب نصف الطريق بين أرصفة زاخرة وهنا وهناك رجل يهتف يحيا صدقي، وفجأة علي نفس النغمة استرد الواقفون كلمات النغم أصل النغم التي تضطرم في الصدور وانفجرت في كل مكان.
تحيا مصر تحيا مصر يحيا الوفد وزداد الناس التصاقا ببعضهم فزادهم التصاقا وإحساسا بالقوة وغمرهم شعور بالكبرياء والامتياز والظفر
المأمور يلطم خديه
واضطرب المأمور وروع علي ظهر حصانه أكثر مما روع ضرب الشعب داخل العربات وأمر المأمور أن يضربوا الناس ووقف يلطم خديه وهو يميل بجزعه قائلا بنغم جنائزي علي دمع صرخات النساء كالنادبات مارحنا في داهية كلنا أحيه علينا كلنا…. أحيه علينا!!
وظل عبد الهادي يروي القصة كل يوم لأهله ويذكر محمد أو سويلم وحالة المأمور عندما أطلقت عليه هتافات الرجال فوقف يلطم زي النسوان.
وتتواصل الرواية فالتفت إليه الشيخ حسونه ويقصد إلي محمد أفندي يرمي القطن ولا يرمي وإيه الفايدة مدام بالتراب؟ مافيش فايدة سعد باشا قال مافيش فايدة ، وسكت قليلا قبل أن يكمل شوف اطرد الإنجليز واطرد حزب الشعب كمان ورجع الدستور والقطن يبقي غال ولا أنت لسة مش فاهم يا محمد افندي.
وتألقت عينا محمد أبو سويلم وتذكر منظر الوزراء داخل العربات والمدير يهرول إلي الحكمدار ليشتمه هو والمأمور بينما لرجال علي جانبي الطريق يموجون ويرقصون في نغم تحيا مصر.. يحيا الوفد.
أبو سويلم وذكريات ثورة 1919 فقد أحسن مقاومتهم في ثورة 1919 والتعذيب في السجن علمه كيف يبصق في وجه المأمور وعلمه كل هذا كيف يهتف تحيا مصر في وجه وزراء حزب الشعب.
وبعد أن انفجر محمد أبو سويلم طب ياما حايشوفا ولا إحنا اقل من ابهاتنا اللي بهدلوهم أيام عرابي وإحنا هو احنا بتوع سنة 1919 والقرية كلها تهتف يحيا العدل، والفلاحون يرددون يا إنجليزي يا حرامي أصولي خدت شعيري وقمحي وفولي الله حي سعد جاي … نخ يا عدلي اركب يا سعد
وقال محمد أبوسويلم بصوته الذي عادت إليه طلاقته بقولك مافيش فايدة من الكلام اللي بيعملوه ده كله سيبكوا من الكلام ده والله يا شيخ طول ما إحنا واقفين له كده بربطة المعلم لا حكومة ولا عمدة ولا باشا ولا إنجليز ولا أيها واحد يقدر يطول منا مطال. ما العمدة والكل يستعد للعزاء في العزاء وقف الناس وأحس شيخ البلد أن عليه أن يشترك معهم في الحديث وسمعهم يتكلمون عن صحف تصدر في القاهرة ويغلقها صدقي فتصدر في اليوم الثالث بأمر جديد وهزته كلماته قالها طه حسين وجريدتا ” الجهاد” و” الجامعة ” وشئ اسمه الديمقراطية وحرية الفكر وتهدج صوت المحامي وهو يتكلم عما تصنع الحكومة بخصومها فهي تهدد الموكلين في مكاتب المحامين وهي تحاول أن تتلف أراضي خصومها وتخرب متاجرها وكيف حاولوا قتل زعيم الأمة عدة مرات فتلقي عنه طعنه السنكي نائب جرئ اسمه سنوت حنا.
واستطرد النائب كيف حاولت الحكومة منع زعيم الأمة من رحلاته وحاولت اعتقاله في بيته وكلنه خرج متحديا سلطانها وسلطان الإنجليز وشق صفوف الجند فاضطروه إلي النوم علي أرصفة المحطات ومع ذلك صمم علي أن يعلن إرادة الشعب ولتفعل القوة الغاشمة ما تشاء.
تحطيم سلاسل مجلس النواب
ولم يكد المحامي ينتهي من كلامه وهو في العزاء حتي اندفع الشيخ حسونة بصوت حار يذكرهم بتحطيم سلاسل مجلس النواب ويطلب منه أن يشرح بالتفاصيل موقف ويصا واصف رئيس المجلس البطل الذي اقتحم دار البرلمان متحديا قوة الرصاص لأن النواب لا يعترفون بحل مجلس النواب ولا بإلغاء الدستور ولا بحراقة الدستور الجديد دستور حزب الشعب.
وامتلأ شيخ البلد إحساسا ببطولة الذين حطموا السلاسل وناموا علي أرصفة المحطات وملأوا الشوارع ف القاهرة وطنطا والمنصورة والفيوم وبين سويف ولم يعبأوا بالرصاص.
وادرك شيخ البلد من ابتسامات السخرية ومن تجربته أن لا إصلاح للقطن ولا لأي شئ مدام في مصر صدقي يحكم البر ومعه رحال يركبون ظهور الناس ويهزون أرجلهم وقال آه يا شيخ إبراهيم إلهي يموت لنا كل يوم عمدة عشان نسمعك يا شيخ.
” انظر إلي حمارك”وهمس المحامي قائلا: لا سلام مع رجال الحكومة أو رجال حزبها أو المتعاونين معاه كما يعرف الجميع ردا علي وقوف الناس للمأمور وهو يدخل العزاء ولم يقف له المأمور وظل المقرئ في العزاء يقرأ و” انظر إلي حمارك ” وقف المأمور في المدخل والكل ينظر له والي بدنه السمين وصوت المقرئ يعيد ” وانظر إلي حمارك” . واستقرت عيون الفلاحين علي المأمور والشيخ إبراهيم المقرئ يرتل بالسبع ويمد كلمات الآية ” وانظر إلي حمارك ” وابتسم القادمون من المركز مع المحامي وأحس شيخ البلد بحرج كبير وهرول إلي المقرئ وهمس في أذنه شوف لنا أية غير دي في عرضك، ولكن المقرئ نظر إليه بإهمال وستهجان وثبت يديه علي صدغي وحاجباه ترتفعان وانطلق يرتك ” وانظر إلي حمارك ” وأخذت الهمسات الساخرة تتزايد بشكل ملحوظ فصاح محمود بك في ضيق خلاص يا شيخ إبراهيم مافيش في القرآن غير دي من ساعة ما دخلنا وأنت عمال تلت وتعجن في الآية هما مصلطينك.
حتألفوا قرأن جديد
وانفجرت الضحكات صريحة قوية من الجالسين علي الدكك فوقف المأمور قائلا في صوت حاسم صدق الله العظيم طب يا أخي ما تقرأ ياه ” وحشرناهم إلي جهنم يوم القيامة وفدا” فرد المحامي ضاحكا مافيش في القرأن آية كدا انتم حتألفوا قرأن جديد ضد الوقد وخيم الصمت علي الجميع لحظة ثم رفع المأموريده ولوح بها للجالسين علي الدكك وهو يقول : طيب يا بلد مش انتوا بتوع حديد الزارعية مش انتوا بتوع الوفد بتوع يحيا الوفد.
فقال المحامي بطلاقة : ليسوا هم فقط مصر كلها يا حضرة المأمور ولا أنت زعلان عشان حكاية يحيا الوفد، أمال الناس حتقول إيه يعني حاتقول يحيا حزب الشعب ولا يحيا الإنجليز انتم فاهمين إنكم رايحين تحكموا بالحديد والنار لا دا بعدكم يا حضرة المأمور!! هي البلد دي بتاعتكم ؟ انتم فاهمين إيه؟ هي بلد مين؟ دي بلدنا كلنا… بلد الفلاحين دول أولا.. كفايا بقي شغل قطاع الطرق ده.
التعليقات مغلقة.