نعم .. فرنسا قررت إيقاف 14 مفاعل نووي بحلول 2035 .. ولكن !
بقلم – الدكتور على عبد النبى:
في خطابه بمناسبة وضع سياسات الطاقة في فرنسا للسنوات القادمة، قال الرئيس الفرنسى “ايمانويل ماكرون” أن “الحد من دور الطاقة النووية فى فرنسا، لا يعني التخلي عنها”.
نعم .. فرنسا قررت إيقاف 14 مفاعلاً نووياً بحلول عام 2035. فقد أعلن الرئيس الفرنسي “ايمانويل ماكرون” في 27 نوفمبر 2018، أثناء عرض استراتيجية الطاقة الجديدة لفرنسا، عن عزم فرنسا تخفيض نسبة مشاركة محطات الطاقة النووية في توليد الكهرباء من 72% إلى 50%. وأشار إلى أن استراتيجية الطاقة الفرنسية الجديدة سوف تعتمد وتحافظ على بقاء الطاقة النووية كقلب لنظام توليد الكهرباء في فرنسا. كما وعد الرئيس الفرنسي، بأن تزيد مشاركة الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء بمقدار خمسة أضعاف لتصل إلى “45 جيجاوات” بحلول عام 2030. ووضع في الخطة أن يتم إغلاق محطة “فسينهايم” Fessenheim النووية عام 2020. كما أعلن أن فرنسا سوف تغلق محطات توليد الكهرباء الأربعة المتبقية والتى تعمل بالفحم بحلول عام 2022 كجزء من جهود مكافحة التلوث في البلاد.
كما صرح “ماكرون” إن هذه الخطة قد يعاد النظر فيها، إذا كانت تقنيات التخزين تساعد في التخفيف من حدة مشاكل انقطاع مصادر الطاقة المتجددة، وإذا أصبح التكامل الأوروبي فى مجال الطاقة أقوى.
وفيما يتعلق ببناء مفاعلات نووية جديدة، قال “ماكرون” إنه طلب من هيئة كهرباء فرنسا EDF والمملوكة للدولة، والتي تمتلك وتدير جميع محطات الطاقة النووية الفرنسية، والبالغ عددها 58 محطة، أن تحدد برنامج “نووي جديد” ، بما في ذلك التزامات بالسعر لجعل الطاقة النووية أكثر قدرة على المنافسة. وقال “يجب أن يكون كل شيء جاهزاً في 2021 حتى يكون الخيار المقترح الفرنسي شفافاً”.
هذا ما صرح به الرئيس الفرنسى. والآن نأتى إلى هذا السؤال الهام، وهو: هل تستطيع فرنسا الابتعاد عن الطاقة النووية أو التخلص التدريجى من 14 محطة نووية بحلول عام 2035 ؟.
بدايةً، أود أن ألفت نظر القارئ الكريم، أن موضوع التخلص التدريجى من 14 محطة نووية فرنسية حتى عام 2035، والتى تمثل أكثر من 20% من إنتاج الكهرباء فى فرنسا، يعتبر من الموضوعات المعقدة جدا والشائكة جدا، وذلك نتيجة أسباب متعددة، ولكن يمكن تسليط الضوء على عاملين رئيسيين، وهما:
أولا، من الناحية الاستراتيجية فإن فرنسا هدفها المحافظة على مكانتها كدولة مستقلة فى الطاقة، وهدفها المحافظة على مكانتها كدولة نووية من الطراز الأول، فهى الدولة الفريدة والرائدة والتى تتشابه مع روسيا فى امتلاك دورة نووية كاملة. وهى الدولة التى تبنت مشروع المفاعل الأوروبى EPR، وهو المفاعل الأحدث والأقوى والأكثر تطوراً على المستوى العالمى. فعندما تبنت فرنسا تصميم هذا المفاعل، كان هدفها هو السيطرة على سوق المفاعلات النووية في العالم. وكذا تبنت فرنسا هذا المفاعل، وهو الأكثر أمناً وكفاءةً، ولكى يكون البديل الوحيد للمفاعلات النووية الفرنسية التي في الخدمة حالياً، والتي سوف يتم إزالتها بمجرد انتهاء عمرها التشغيلى. الطاقة النووية هى الخيار الوحيد لفرنسا لتجنب أي نقص كبير في الطاقة في السنوات القادمة. وفرنسا تعي أن استخدام مفاعلات EPR هي الطريقة الأكثر قدرة على الحفاظ على مكانة فرنسا كدولة مستقلة للطاقة، وأكبر مصدّر لشبكة كهرباء أوروبا. وتكسب فرنسا حوالي 3.4 مليار دولار سنوياً من صادرات الكهرباء إلى الدول المجاورة.
والآن، تتفاخر فرنسا بأنها دولة تنعم بالاستقلال في مجال الطاقة، والذي حققته بفضل تطوير الطاقة النووية، وكذلك تتفاخر بانخفاض أسعار الكهرباء فيها، فهى الأقل من جميع الدول المجاورة، وأصبحت شبكة الطاقة النووية الفرنسية مصدراً للاعتزاز الوطني.
السؤال: هل تستطيع فرنسا التخلي عن ريادتها في الصناعات النووية المتكاملة ؟، بالطبع، لا. الصناعات النووية بالنسبة لفرنسا هي شريان الحياة، مصانع عملاقة ومتطورة، عمالة ماهرة في مجال فريد ومتخصص، أعداد كبيرة من الوظائف في جميع المجالات، قطاع هام ومفتوح ويسمح لفرنسا بالمنافسة في مجال الأبحاث والتطوير لتحديث الصناعات الفرنسية، وسوق عالمي مفتوح يعزز من مكانة فرنسا السياسية والاقتصادية.
ثانيا، بدأت الرومانسية النووية الفرنسية فى أعقاب حرب السادس من أكتوبر 1973، حيث أوقفت السعودية تصدير البترول، وارتفعت أسعار البترول، وكانت الصدمة وتضررت فرنسا كثيرا من هذا القرار، لأنها كانت تعتمد اعتماداً أساسياً على البترول في تشغيل محطات توليد الكهرباء. والبترول والغاز الطبيعى يعتبران من الموارد المحلية النادرة فى فرنسا. فهذه الحرب دفعت فرنسا دفعاً إلى اللجوء إلى الطاقة النووية كمصدر لتوليد الكهرباء، وخاصة وأن المصادر الأولية من الطاقة المتجددة “رياح أو شمسى” كانت خارج المنافسة الاقتصادية، بسبب ارتفاع سعر الكيلو وات ساعة المنتج من هذه المحطات، وكون هذه البدائل لا توفر طاقة مستمرة، بل هي طاقة متقطعة، وأن أسعار تخزين الطاقة مرتفعة جداً. كما ثبت أن التعامل مع تحديات إمدادات الطاقة أمر معقد للغاية بحيث لا يمكن تخفيض الدعم التقليدي لفرنسا في مجال الطاقة النووية.
وكان من ضمن القرارات التي اتخذها الرئيس الفرنسي “ماكرون”، قراراً بإغلاق محطة “فسينهايم”Fessenheim النووية، حيث تحدد إغلاقها في عام 2020، أى بعد أن يتم تشغيل المفاعل الفرنسي الأول من نوع EPR لتوليد الكهرباء في “فلامانفيل” Flamanville. “فسينهايم” هى المحطة الأقدم فى فرنسا ولازالت تعمل حتى الآن. وهذه المحطة تتكون من مفاعلين، قدرة المفاعل الواحد 920 ميجاوات. وكانت قد دخلت الخدمة فى 1 يناير 1978، وهى من نوع الماء الخفيف المضغوط. من ناحية حالة المحطة الفنية هى “مرضية بشكل عام” حسب ما أعلنته وكالة الأمان النووية الفرنسية، ولا توجد حاجة تستدعى “إغلاق المحطة” من وجهة نظر الأمان النووي، لكن سياسة الطاقة في الحكومة الفرنسية “يمكن أن تؤدي إلى خيارات مختلفة”، حيث أن المحطة تقع على ضفاف نهر الراين بالقرب من الحدود السويسرية والألمانية، وهى تقع على خط الصدع الزلزالي، وعلى بعد 100 كيلومتر جنوب مدينة ستراسبورج الفرنسية وحوالي 25 كم جنوب غرب مدينة فرايبورج الألمانية، وهى عرضة للنشاط الزلزالي والفيضانات. وموضوع إغلاق المحطة ليس وليد اليوم، فقد كان إغلاقها هدفاً لحملة من قبل دعاة حماية البيئة في ألمانيا وسويسرا وفرنسا لسنوات، فضلاً عن كونها مصدراً دائماً للاحتكاك مع ألمانيا.
والآن توجد معارضة قوية في فرنسا ضد قوانين الطاقة النووية الجديدة، معتبرين أن الصناعة النووية الفرنسية هي الضامن لاستقلال الطاقة في فرنسا، وكذا فهى مصدر للكهرباء الرخيصة. كما عارضت النقابات المهنية الفرنسية مسألة إغلاق محطة “فسينهايم”، خشية أن يؤدي إغلاق المحطة إلى فقدان حوالي 2000 فرصة عمل، سواء مباشرة أو غير مباشرة.
كما أننا لو نظرنا إلى موضوع غلق 14 محطة نووية، نجد أنه ليس وليد اليوم، لكنه يرجع لعام 2013، حينما أطلقت الحكومة الفرنسية نقاشاً شعبياً حول التحول في مجال تنوع مصادر الطاقة الكهربائية. ففي 14 أكتوبر 2014، صوت مجلس النواب في البرلمان على قانون جديد يخص استراتيجية الطاقة. وفي فبراير 2015، كان قد تم مناقشة القانون في مجلسي البرلمان. ويتضمن القانون الجديد مواد تختص باستراتيجية الطاقة منها:
خفض إنتاج الطاقة النووية من 75٪ إلى 50٪ من خليط الكهرباء بحلول عام 2025.
زيادة حصة الطاقة المتجددة من الاستهلاك النهائي للطاقة إلى 23٪ في عام 2020 وإلى 32٪ في عام 2030.
خفض استهلاك الطاقة الأولية من الوقود الأحفوري بنسبة 30٪ بحلول عام 2030 ، مقارنةً بعام 2012.
وبذلك، فعندما يقرر “ماكرون” إيقاف 14 مفاعلاً نووياً بحلول عام 2035، فهو بذلك قد أرجأ تنفيذ إيقاف هذه المحطات مدة 10 سنوات أخرى، فبدلا من 2025 أصبحت 2035. وخطة الإغلاق ستتم تدريجيا، فسيتم إغلاق ما يصل إلى 6 محطات للطاقة النووية بحلول عام 2030، في حين سيتم إغلاق المفاعلات المتبقية وعددهم 8، بحلول عام 2035.
هناك أسباب أدت إلى تأجيل خطة إغلاق 14 محطة نووية لمدة 10 سنوات، وأهم هذه الأسباب هى:
أولا، أن الاعتماد على الطاقة المتجددة “طاقة رياح وطاقة شمسية” يحتاج إلى وسائل تخزين للطاقة ذو جدوى اقتصادية، لأن هذه المصادر تنتج طاقة متقطعة. وحالياً فرنسا تمتلك مصادر طاقة شمسية تبلغ قدرتها حوالي 8.5 جيجاوات. ووضعت خطة لكى تشارك الطاقة الشمسية بمقدار 45 جيجاوات بحلول عام 2030. وكان من المتوقع أن تكون وسائل تخزين الطاقة مناسبة من الناحية الاقتصادية لكى يكتمل العرض، وتكون هذه المصادر مصدراً للطاقة الكهربائية ذات موثوقية عالية، ويعول عليها كبديل لمصادر الطاقة التقليدية. لكن اتضح أن وسائل تخزين الطاقة لم تنضج بعد وأنها مكلفة، ويستلزم ذلك مراجعة وتعديل الخطة، وبناء على ذلك كان لزاماً تأجيل تنفيذ هذه الخطة لمدة 10 سنوات.
ثانيا، الدول الأوروبية تربطها شبكة كهرباء، وهذه الشبكة يتم من خلالها تبادل الطاقة الكهربائية حسب العرض والطلب. وتعتبر فرنسا أكبر دولة تقوم بتصدير طاقة كهربائية عبر هذه الشبكة. ووضعت فرنسا خطتها على أساس أن الظروف سوف تتحسن، وتتحسن معها الدول الأوروبية الأخرى، ويصبح التكامل الأوروبي فى مجال تبادل الطاقة أقوى. لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، ولم تتحسن الظروف وأصبح لزاماً تأجيل الخطة لمدة 10 سنوات.
من الناحية العملية وعلى أرض الواقع، نجد أن الظروف الآن أصبحت مواتية ومساندة للصناعات النووية الفرنسية لكى تكمل مسيرتها وبأمان. وأصبح هناك أمل كبير معقوداً على المفاعل الأوروبى EPR، لكى ينتشر داخل فرنسا ويكون بديلاً للمفاعلات التي سوف ينتهى عمرها التشغيلى. وكذا ينتشر في الدول الأوروبية، وستكون بريطانيا ثالث الدول الأوروبية التي سينفذ فيها هذا المفاعل بعد فرنسا وفنلندا، فقد تم الموافقة النهائية في سبتمبر 2016 على وحدتين في Hinkley Point في بريطانيا، ومن المتوقع الانتهاء من تنفيذ الوحدتين بحلول عام 2025. وفى الصين، فقد بدأ البناء فى وحدتين في “تايشان” Taishan في عامي 2009 و2010، ووصلت الوحدة Taishan-1 إلى حالة الحروجية في 6 يونيو 2018، وبدأت في التشغيل وفي ضخ كهرباء على الشبكة في 29 يونيو 2018. ومن المتوقع أن يبدأ تشغيل الوحدة الثانية Taishan-2 في 2019.
في النهاية، أستطيع أن أقول، أن الصناعة النووية الفرنسية هي دولة فرنسا ذاتها، في كبريائها وعظمتها وقوتها، وهى الضامن لاستقلال فرنسا في مجال الطاقة وفى المجال العسكرى.
أشكركم، وإلى أن نلتقى فى مقالة أخرى لكم منى أجمل وأرق التحيات.