نظرة سريعة على النووي الإسرائيلي
بقلم – الدكتور على عبد النبى:
مع بداية قيام دولة إسرائيل عام 1948 بدأ التخطيط السري لتنفيذ برنامج نووي عسكري متكامل، وتولى رعاية هذا البرنامج رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك “دافيد بن جوريون” ، وهو يؤمن بـأن “إسرائيل لا يمكنها البقاء على قيد الحياة إلا إذا كان لديها رادع عسكري قوى ، وأن إمتلاكها لسلاح نووي سيؤدى إلى إقناع العرب بقبول وجودها فى المنطقة ” .
فى نوفمبر 1949، تم إنشاء “معهد وايزمان للعلوم” تكريما لإسم أول رئيس لدولة إسرائيل “حاييم وايزمان” ، وكان من بين العاملين بالمعهد دكتور يدعى “إرنست ديفيد بيرجمان” وهذا الرجل هو الذي قاد خطط تطوير الأسلحة النووية الإسرائيلية وكان يرأس قسم الكيمياء في المعهد. وبدأ التنفيذ الفعلي لما هو مخطط له بدقة متناهية وبعيدا عن أعين مخابرات الدول الأخرى بما في ذلك مخابرات أمريكا وهى الدولة الأم لإسرائيل ، وبدأ إعداد الكوادر العلمية في مجال الفيزياء النووية ، وبدأت البعثات العلمية إلى أمريكا والى دول غرب أوروبا ، وبدأ الساسة الإسرائيليون في إعداد المسرح السياسي الخفي للإتصال بالأصدقاء المقربون في دول غرب أوروبا من خلال جهاز الموساد الإسرائيلى.
أقرب الدول في ذلك الوقت لإسرائيل سياسيا كانت فرنسا ، فهي تتمتع بالاستقلال السياسي والعسكري عن أمريكا ، وبدأ التعاون النووي السري بين إسرائيل وفرنسا ، وبدأت الأحداث تأخذ طابع السرعة والسرية ، ففي عام 1952 تأسست سرا لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية ، وفى عام 1953، تمكنت إسرائيل من إبتكار تكنولوجيا جديدة لإستخلاص اليورانيوم من فوسفات صحراء النقب ، وكذا إبتكار تكنولوجيا جديدة لإنتاج الماء الثقيل ، ونظرا للتعاون المشترك بين إسرائيل وفرنسا فقد حصلت فرنسا على هذه التكنولوجيات المتطورة ، كما دعم علماء إسرائيل البرنامج النووي الفرنسي من خلال تعاونهم في إنشاء مفاعل فرنسي لإنتاج البلوتونيوم ، وكذا في إنشاء محطة معالجة للوقود النووي في “ماركول” بفرنسا ، والأخطر من ذلك كان في تعاونهم المشترك في مجال التجارب النووية الفرنسية ، ومنها التجارب النووية الفرنسية التي كانت تتم في صحراء الجزائر، حيث أجمعت جميع تقارير المخابرات الأجنبية على أن تجارب إسرائيل النووية كانت هي نفسها تجارب فرنسا النووية .
بدأ تنفيذ المخطط السرى لتنفيذ مفاعل “ديمونا” فى صحراء النقب ، ففى 17 سبتمبر عام 1956 التقى الوفد الإسرائيلى والذى كان يضم مدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلى “شمعون بيريز” والدكتور “بيرجمان” مع أعضاء لجنة الطاقة الذرية الفرنسية ، وتم الإتفاق على بناء مفاعل فرنسى للابحاث فى إسرائيل وهو “مفاعل ديمونا“، وتم التعاقد السرى على تنفيذ مفاعل “ديمونا” فى 3 اكتوبر عام 1957 بالإضافة الى إنشاء مصنع لفصل البلوتونيوم من الوقود النووى المحترق.
على الصعيد العسكرى النووى كانت مخططات إسرائيل تنفذ بشكل سرى وبدقة متناهية ، ففى 7 نوفمبر عام 1956، عقد اجتماع سرى “إسرائيلى فرنسى” حضره من الجانب الإسرائيلى وزيرة الخارجية “جولدا مائير“، و“شيمون بيريز“، ومن الجانب الفرنسى وزيرالخارجية “كريستيان بينو” ووزير الدفاع “موريس بورجيه” وذلك بهدف تطوير قوة الردع النووية الإسرائيلية.
لكن العلاقات الوردية بين إسرائيل وفرنسا لم تستمرطويلا ، فمع تولى “شارل ديجول” رئاسة فرنسا فى أواخر عام 1958 ، بدأت تهب رياح التغيير فى سياسة فرنسا تجاه النووى الإسرائيلى ، وبدأت المفاوضات بين إسرائيل وفرنسا والتى استمرت سنتين، والتى كانت تهدف الى تحقيق طلب فرنسا من أن تعلن إسرائيل عن “سلمية مشروعها النووى” .
وتوالت الضغوط على إسرائيل ففى 18 ديسمبر 1960 ، أكد رئيس هيئة الطاقة الذرية الامريكية “جون ماكونى” فى لقاء مع الصحافة على أن اسرائيل تقوم ببناء مفاعل نووى “مفاعل ديمونا” ، ثم أعلن استقالته . وكان هناك تعاون نووى إسرائيلى مع أمريكا ، حيث تم التعاقد مع أمريكا على بناء مفاعل بحثى أمريكى صغير من النوع الحوض المفتوح فى “ناحال سوريك” قدرة 5 ميجاوات فى 20 مارس 1957.
كل هذه الضغوط أدت الى ان يعلن رئيس وزراء إسرائيل “دافيد بن جوريون” فى 21 ديسمبر 1960 أمام الكنيست أن إسرائيل تقوم حاليا ببناء مفاعل نووى للأغراض السلمية قدرته 24 ميجاوات .
وفى عام 1961 وصلت معلومة للمخابرات البريطانية تفيد أن إسرائيل تبنى مصنع لفصل البلوتونيوم فى موقع مفاعل “ديمونا” ، مما فسر وأكد على أن إسرائيل فى طريقها لصنع أسلحة نووية.
كما كان هناك تعاون نووى سرى إسرائيلى مع بريطانيا ، ففى الفترة من عام 1959 وحتى عام 1966 قامت بريطانيا سرا بشحن شحنات نووية لإسرائيل ، وذلك لأغراض إعادة معالجة الوقود المحترق للحصول على المواد الانشطارية “يورانيوم 235 والبلوتونيوم 239 ” ، كما أرسلت 20 طن من الماء الثقيل إلى إسرائيل لإستخدامه فى مفاعل “ديمونا“. وفى هذه الفترة قامت الأرجنتين بشحن 90 طن من أكسيد اليورانيوم (الكعكة الصفراء) سرا إلى إسرائيل. وفى عام 1968، قامت إسرائيل سرا بشراء 200 طن من خام اليورانيوم من شركة تعدين بلجيكية.
فى ديسمبر 1963 وصل مفاعل ديمونا “EL-102” الى حالة الحروجية ، بمعنى أنه قد وضع فى حالة التشغيل الفعلى ، وهذا المفاعل يعتبر نسخة معدلة من المفاعل الفرنسى ” EL-3 ” والذى بدأ تشغيله عام 1957 فى “ساكليه” بفرنسا. مفاعل “ديمونا” يستخدم الماء الثقيل كمبرد للوقود النووى وكمهدئ للنيترونات داخل قلب المفاعل ، وتصميم المفاعل يتيح انتاج كميات كبير من البلوتونيوم 239 من نواتج احتراق اليورانيوم الطبيعى “يورانيوم 238” داخل قلب المفاعل ، المفاعل يحتوى على ثلاث دوائر تبريد ، والقدرة الحرارية لكل دائرة 13 ميجاوات ، أى أن قدرة المفاعل 39 ميجاوات حرارى ، وفى السنوات التى سبقت عام 1977 تم زيادة قدرة المفاعل الحرارية حتى وصلت الى حوالى 70 ميجاوات ، ويقال أن فى الأعوام التى تلت عام 1977 تم زيادة قدرة المفاعل الحرارية حتى وصلت الى حوالى 150 ميجاوات ، وهذا يتفق مع ما صرح به الفنى السابق فى مفاعل ديمونا “مردخاى فعنونو” فى 5 أكتوبر 1986 ، من أن :
(1) نسبة البلوتونيوم لليورانيوم فى الوقود فى مصنع إعادة المعالجة هى 0.0004 (وهى تفيد ان قيمة إحتراق الوقود فى المفاعل هى 450 ميجاوات يوم لكل طن) ،
(2) يتم استخراج 36 كيلوجرام من البلوتونيوم من الوقود النووى المحترق في السنة،
(3) فقدت حوالى 10٪ من البلوتونيوم الموجودة فى “الأزرار” المعدنية أثناء تصنيع السلاح النووى ، لكن فى وقت لاحق تم أعادتها وتحويلها مرة أخرى إلى “أزرار” ،
(4) قدرة مفاعل “ديمونا” هى 150 ميجاوات،
(5) إسرائيل تمتلك من 100 الى 200 سلاح نووى ،
(6) إستطاعت إسرائيل صنع قنابل هيدروجينية ما بين أعوام 1980 الى 1986.
كما أكد “فعنونو” أن إسرائيل تقوم بتخصيب اليورانيوم فى موقع مفاعل “ديمونا”، وأن هناك خط انتاج به أجهزة تخصيب تعمل بنظرية الطرد المركزى للغاز منذ عام 1980 ، بالإضافة الى وجود خط انتاج به أجهزة تخصيب تعمل بطريقة الليزر منذ عام 1981، وهذه الطريقة هى طريقة إسرائيلية مبتكرة وحصلت بها إسرائيل على براءة إختراع.
ومن حسابات النيوترونيكس فان معدل انتاج المفاعل من البلوتونيوم هى 0.96 جرام لكل ميجاوات يوم للوقود المحترق ، وبالتالى فإن انتاج 36 كيلوجرام كل سنة (270 يوم فى السنة تشغيل) من البلوتونيوم يؤكد أن قدرة المفاعل الحرارية حوالى 140 ميجاوات.
أجمعت جميع تقارير المخابرات الأجنبية، على أن إسرائيل صنعت أول سلاح نووى إسرائيلى فى ديسمبر عام 1966، ثم بدأت فى إنتاج الأسلحة النووية على نطاق واسع بعد حرب 1967 ، وأن قنابل إسرائيل النووية الأولى كانت تصنع من اليورانيوم 235 . كما أفادت التقارير أن إسرائيل أجرت تجربة نووية تحت الأرض فى صحراء النقب فى عام 1963.
كما أفاد تقرير لوكالة استخبارات الدفاع الأمريكية فى عام 2013 ، أن إسرائيل إنتجت أول قنبلتين نوويتين فى عام 1967 ، وأن إسرائيل أنتجت أسلحة نووية بمعدل قنبلتين فى السنة ، ثم توقفت عن الإنتاج فى عام 2004 . وذكر التقرير أن اسرائيل لديها 80 رأس حربية نووية ولديها ما يكفى من المواد الانشطارية لإنتاج أكثر من 190 قنبلة .
فى عام 2014، صرح الرئيس الأميركى الأسبق “جيمى كارتر” أن إسرائيل لديها 300 أو أكثر من القنابل، ولا أحد يعرف بالضبط كم الأسلحة النووية التى تمتلكها.
وهناك تقديرات تشير الى أن إسرائيل تمتلك أكثر من 300 سلاح نووى ، سواء كانت قنابل إنشطارية أو هيدروجينية ، فمنها ما يتم إسقاطه من الطائرات ، أو رؤوس نووية محملة على صواريخ أرض – أرض أو صواريخ بحر- أرض من خلال الغواصات، وتشير التقديرات الى ان معظم هذه الأسلحة مخزنة وغير مجمعة ، لكن تجميعها وتجهيزها للإستخدام يتم فى خلال أيام معدودة.
على وجه الخصوص، قامت إسرائيل بإجراء البحوث والتطوير على القنابل الهيدروجينية ذات المرحلتين (يستخدم الطاقة من تفاعل الانشطار النووي الرئيسي لضغط وإشعال تفاعل الاندماج النووي الثانوي) وكذا قذائف مدفعية نووية.
هذا النوع من القنابل الهيدروجينية يعمل بواسطة تحفيز عملية النووي بين نظائر عناصر كيميائية لعنصر الهيدروجين وبالأخص النظيرين التريتيوم (Tritium) وديوتيريوم (Deuteriumحيث ينتج ذرة هيليوم مع نيوترون إضافي ، ويكون الهيليوم الناتج من هذه العملية أثقل كتلة من الهيليوم الطبيعي.
فى الثمانيات وبعد حرب 6 أكتوبر قررت إسرائيل على ما يبدو وقف إنتاج الأسلحة النووية نظرا لإمتلاكها مخزون كبير من المواد الإنشطارية وخاصة “بلوتونيوم 239″ ، وبالتالى فقد انخفض إنتاج البلوتونيوم مع الحفاظ على مستوى انتاج “التريتيوم” اللازم للقنابل الهيدروجينية. والأحتمال الأرجح أن يكون مفاعل “ديمونا” يعمل حاليا لإنتاج “التريتيوم” ، لكن فى نفس الوقت فإن الوقود المحترق الخارج من المفاعل يمكن إعادة معالجتة وفصل البلوتونيوم 239 منه.
وقد صرح “مردخاى فعنونو” ، من ان إسرائيل فى سنة 1977 قامت ببناء محطة تجريبية فى موقع مفاعل “ديمونا” لتخصيب الليثيوم الطبيعى لزيادة نسبة ليثيوم-6 من 7.5٪ إلى نحو 85٪ وأن إنتاج “التريتيوم” يتم من خلال التشعيع النيوترونى لليثيوم-6 (Li-6) فى مفاعل ديمونا.
التقديرات العلمية تقول أن انتاج مفاعل “ديمونا” من البلوتونيوم منذ عام 1965 تتراوح مابين 675 الى 925 طن ، وعلى الرغم من أن إسرائيل فرضت سرية تامة على عمليات تخصيب اليورانيوم بإستخدام تكنولوجيا الطرد المركزى ، إلا أنها اعترفت بإستخدام تكنولوجيا التخصيب بالليزر لفصل النظائر من البخار الذرى . ولاتزال هناك شكوك كبيرة في تقديرات كميات مخزون إسرائيل من كل من البلوتونيوم والتريتيوم وكذا المعدل الحالى لإنتاجهما.
إسرائيل لم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ، وبالتالى فهى لا تخضع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، ما يعنى أنه لا توجد وسيلة للتأكد من إجراءات الأمن والسلامة فى مفاعلاتها النووية السرية ، وإسرائيل ترفض الإفصاح عن أية معلومات حول الأنشطة النووية غير الخاضعة للضمانات ، والمفاعل الوحيد الذى يتم التفتيش عليه من قبل مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية هو مفاعل “ناحال سوريك” الأمريكى ، لكن مفاعل “ديمونا” لا يتم التفتيش عليه ، كما أن هناك حوالى 6 مفاعلات نووية سرية ومراكز ابحاث نووية لا يتم التفتيش عليها.
إسرائيل الأن لديها بالفعل ما يكفى من البلوتونيوم لتلبية احتياجات أمنها القومى ، ويمكنها أن تنضم الى معاهدة “وقف إنتاج المواد الانشطارية” Fissile material cutoff treaty ، ومع إحتفاظها بتشغيل مفاعل “ديمونا” لإنتاج التريتيوم فقط ، حيث أن “التريتيوم” مطلوب تجديده بانتظام فى الأسلحة الهيدروجينية لأن فترة نصف عمره هى 12 سنة .
إسرائيل تعلم علم اليقين أن تواجدها فى المنطقة يعتمد على قوتها العسكرية ، فهى تتبع سياسة “التفرد” ، بمعنى أنها لابد وأن تكون القوة الوحيدة المسيطرة فى المنطقة ولا تعلوها قوة أخرى ، والترسانة النووية الإسرائيلية تعتبر بالنسبة لها حياة أو موت ، وما تحرص عليه إسرائيل لضمان تطبيق سياسة “التفرد” الأتى : “أولا” أن لا يتم نزع سلاحها النووى وأن تحتفظ بسلاحها النووى للردع، “ثانيا” أن تكون بعيدة عن عمليات التفتيش من قبل مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، “ثالثا” أن لا تمتلك أى دولة عربية أسلحة نووية.