مُجَاهِد تَوْفِيق الْجُنْدِيّ الذي غَرَسَ مَحَبَّتَهُ في القُلُوب
بقلم – د أحمد عيد عبد الفتاح حسن
أستاذ اللغويات المساعد بكلية اللغة العربية بالقاهرة، والمدير السابق لوحدة ضمان الجودة
• لله درُّه مؤرِّخًا أزهريًّا بارعًا، يعتزُّ بأزهريته في المحافل والندوات والمؤتمرات العلمية في الداخل والخارج، ويُمثِّل الأزهرَ الشريفَ خيرَ تمثيلٍ في الشكل والمضمون!
• لله درُّه عالمًا جليلاً، رأينا أنَّ راحتَهُ وسعادتَهُ كانت في التعب من أجل الحصول على بغيته العلمية، وتحقيق غايته التاريخية النبيلة!
• لله درُّه أستاذًا جامعيًّا قديرًا جادًّا، كان جِدُّهُ يُغْضِب الكُسالى وغيرَ الجادِّين، ويُسْعِد مَن كان على شاكلته من الأساتذة الجادِّين ذوي الشأن في التخصصات المختلفة!
• أَبَى– رحمه الله- إلا أن يقف في الصفوف الأولى بين المؤرخين العظام الموثوقين، الذين يقولون فيُوثقون ما يقولون، ويحكمون على الأشياء فيُعلنون أسباب أحكامهم، فلم يكن من الذين يقذفون بالظَّنِّ في أقوالهم وعباراتهم من مكانٍ بعيدٍ لإصابة هدفٍ أو تحقيق غرضٍ؛ فلا يصيبوا هدفًا، ولايصلوا إلى غَرَضٍ نبيلٍ؛ لبعد المسافة بين ما يقولون وبين أهدافهم وأغراضهم، التي لم يتمكنوا من إدراكها ببصرهم وبصيرتهم.
• كنت أرى في ورقة أسئلته للطلاب في مرحلتي الليسانس والدراسات العليا – وقد عملت في كنترول الدراسات العليا مدةً ليست بالقليلة، وما زلتُ أعمل في الكنترول العام لكلية اللغة العربية بالقاهرة في مرحلة الإجازة العالية “الليسانس”- أقول: كنت أرى في ورقة أسئلته لوحةً فنيةً رائعةً، رسمها فنانٌ مبدعٌ بخطه الدقيق، وفي نهايتها هذه العبارة أو ما يشبهها (لا تخرج عن الأسئلة المطلوبة مع بيان نوع الخط الذي كُتِبت به الأسئلة)، وعلى الظرف الذي وُضِعت الأسئلة بداخله توقيعه الجميل، وبعده لقبه الذي كان يُحِبُّه ويعتزُّ به (مؤرخ الأزهر).
• كان دقيقًا في تصحيح أوراق الإجابة، يجلس بجواري في كنترول الدراسات العليا، فيستغرق وقتًا كبيرًا في تصحيح الوُريقات؛ ليُعطِي كلَّ طالبٍ ما يستحقه من درجاتٍ، ومن نجاح أو رسوب، ويبدو تقييمه لورقة إجابة الطالب من الداخل في مشهدٍ رائعٍ، قام به خطاطٌ ماهرٌ.
• كان يُدخل السرور على كلِّ من يقابله من زملائه في الكلية بعباراته المرحة وروحه الطيبة، أذكر أنَّهُ دخل عندنا كنترول السنة الرابعة ليأخذ أوراق إجابة مادته التي كان يُدرسها، وقد عملتُ فيه بداية تعييني مدرسًا بالكلية، فلقيه زميلنا د/ أحمد نجيب، فسأله أستاذنا عن اسمه، فقال: (أحمد نجيب)، فقال أستاذنا الراحل مداعبًا: لو تحولت الهمزة في أول اسمك إلى ميم لصرتَ رئيس جمهورية، فضحكنا جميعًا لهذه البديهة الحاضرة والفكاهة السريعة.
• لقد فقدنا عالمًا موسوعيًّا في مجاله، كان له شأنه في الدراسات التاريخية والحضارية والوثائقية، يقصده السائلون عن تاريخ الأزهر ورجاله المخلصين كلَّ حينٍ، فلا يكادون يَعْدِمُون منه جوابًا كافيًا.
• تحدَّثتُ معه عن الشيخ/ محمد الطنطاوي صاحب (نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة)، لعلي أجد عنده بعض الوثائق التي تكشف لي عن شخصيته وحياته، حين عزمتُ على الكتابة عنه في سلسلة (علماء خالدون) التي تُصدرها كلية اللغة العربية بالقاهرة كلَّ عامٍ، فلم أجد شيئًا عنده، غير أنه قال لي: (كنت أرى اسمه مكتوبًا في الجداول الدراسية)، فظَلَّ يُتابع معي، ويتصل عليَّ، ويسأل: هل وصلت إلى شيءٍ؟ فقلت له: وصلتُ إلى ابن الشيخ الطنطاوي لكنه غيرُ متعاون، فطَلَبَ مني أن أعطيه تليفونه؛ ليحاول إقناعه بأهمية الكتابة عن والده الراحل/ محمد الطنطاوي.
• رحمات الله تترى على أستاذنا د/ مجاهد توفيق الجندي مؤرخ الأزهر، وفقيده الغالي يوم الأربعاء 26/12 /2018م، الذي قَلَّما يجود الزمانُ بمثله، فقد كان له من اسمه نصيبٌ كبيرٌ؛ فهو:
• (مُجَاهِدٌ)، رأينا فيه صفةَ الجهادِ واضحةً في أقواله وأفعاله وتصرفاته الجادة التي لا يخشى فيها إلا الله وحده، وعَرَفْنا حرصه الشديد الدائم على السير في طريق المعرفة والوصول إلى الحقائق والدقائق والوثائق إلى نهاية حياته، وشاهدنا حضوره المثمر ومشاركته الفاعلة في المحافل والندوات والمؤتمرات العلمية الدولية داخليًّا وخارجيًّا مهما كلفه ذلك من وقت وجهد، وقد رأيتُه بعيني في المؤتمر العلمي الثاني (التراث العربي والإسلامي: الرصيد والعمل والمثاقفة والحضور) الذي أقامه مركز تحقيق المخطوطات بجامعة قناة السويس، ومعهد المخطوطات العربية (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: ألكسو)، ومركز إحياء التراث العلمي العربي بجامعة بغداد، بالقاهرة في الفترة من (21 – 22 فبراير 2018م) الذي شاركت فيه ببحث (نظرات نقدية في كتب تراثية)، فقد حَضَرَ معنا الجلسة الافتتاحية للمؤتمر في دار الأوبرا المصرية، وجلسات المؤتمر التي عُقدت في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، في حيِّ الدُّقِّي.
• (ابنُ توفيقٍ)، قد وفقه الله تعالى إلى كلِّ خير ونفع للدارسين والباحثين من كلِّ مكانٍ في حياته، وسيظل ذلك الخيرُ والنفعُ موصولاً بعد وفاته بما خَلَّفَه من مؤلفات وكتب ووثائق نادرة، تتعلق بصرح العلوم العالمي (الأزهر الشريف) الذي كان العلامة الراحل يحبه حبًّا شديدًا فريدًا يتقاطرُ وفاءً وإخلاصًا وعطاءً مصحوبا بالبهجة والسعادة.
• من آل (الْجُنْدِيّ)، وجنديَّتُهُ لله تعالى في سبيل العلم والنفع والبحث والحفاظ على تراث الأزهر الشريف واضحة ٌوضوح َالشمس في ضحاها طيلة حياته، ليس فيها كَسَلٌ ولا تراخٍ ولا سكونٌ، وقد كانت مثار إعجابنا وإسعادنا، وهي التي أنطقت القاصي والداني بالثناء عليه والإشادة بعلمه وسعيه بعد وفاته ورحيله إلى الدار البرزخية.
• نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة وحسن الثواب، وأن يوفق طلاب العلم والباحثين للسير على نهجه، والإفادة من علمه وخلقه، وأن يُصَلِّي ويُسَلِّم على سيدنا محمدٍ وآل بيته صلاةً وسلامًا، لا يُحصى عددهما، ولا ينقطع مددهما إلى يوم الدين.
اللهم آمين.