مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

مَنْسِيٌّ

بقلم – سمير العَصَري

من أُولِي الأرحام المنسيين، لا أتذكره ولا أراه أو يرانا إلّا في هذا المقام.

يظهر فجأة، مُتجسدًا في الفراغ؛ ألمحه للوَهْلة الأولى مُقبلًا عليّ؛ يصافحني بيد باردة؛ يلصق على عجل خدّيه بخدّي على التتابع مرددًا اسمي مُعزيًا، بَيْنَا أهرف بلا شيء، ورائحة الحنوط المُريبة المنبعثة من لحيته الخفيفة تتسلل إلى خياشيمي.

ينشغل بنزع الميت من النَّعْشِ؛ يشارك في تغييبه في القبر؛ ثُم بعد ذلك؛ يعاون بهمة مُتعهدي الدفن في غلق القبر بالآجر والخرسانة.

يتحرك بخفة ونشاط في بدلته الصيفية النظيفة الكالحة، ومداسه المهترئ المُطيَّن؛ يُعد خليط الرمال والأسمنت؛ يناول قالبًا من الطوب، حتى آخر قطعة من الآجر تناسب تمامًا آخر ثغرة في الجدار الذي يفصل بين الدَّفينِ وعالم الأحياء. بحرص وعِنَايَة؛ يتأكد من تمام اِنسداد فوهة القبر.

بعد الدعاء للمُتَوَفًّى وانصراف آخر المشيعين؛ ودائمًا ما أتخلف قليلًا للدُعاء منفردًا، يتناول حصاة يغرسها في جدار القبر الطري ليسطر بخط نسخ رديء: انتقل إلى رحمة الله تعالى في جُمادى . . الموافق . . سنة . .؛ ثُم يعقب ذلك باسم المُتَوَفّي.

يتراجع إلى الخلف قليلّا دون أن ينظر تجاهي، يُمعن النظر فيما كتبه وقد اِكْتَسَى وجهه بأمارات الرضا.

لمْ يُخطئ أبدًا في اسم أيٍّ من ذوي قرباه المتوفين؛ يكتبه دَومًا رباعيًا مُذيَّلًا بلقب العائلة.

قد يهمك ايضاً:

هركي : تنسيق مصري قبرصي يوناني لتأمين الطاقة والاستقرار في…

طفل تايه وصل الستين

يداخلني في كل مرة شيءُ من الاشمئزاز والنفور، وكأنني أرى على وجهه الصفراوي الثعلبي الممصوص ابتسامة خفيّة وهو يتمم بيده ويربت على الجدار ليتأكد من تمام غلق القبر على قاطنه، ينتفش منخارا أنفه ويرتفع حاجباه وهو يتناول الحصاة التي يخط بها تاريخ الوفاة واسم المُتَوَفّي؛ . . . كان آخر الرَّعيل الأَوّل من ذوي قرباه.

لطالما كرهت تلك اللحظات، وأخذتني دوّامة من الحِيرَةِ في أمر هذا القريب الغريب وطبيعة ما يضمره، تمنيت أن أموت وأدفن بعيدًا.

لأول مرة، كان عليّ التبكير لفتح فوهة قبر في حوزتنا، لتهويته وإعداده بفرش الرمال في أرضيته.

هيأت أمام القبر مقطفين من الرمال، ونصف جِوال من الأسمنت، ودلوًا مملوءًا بالماء، وكمية لا بأس بها من الآجر.

تمت بسرعة عملية تغييب المُتَوَفّي في القبر، وقد بدا في كفنه هزيلًا ضئيلًا، وبينما كان يلقنه أحدهم داخل القبر بما يجيب به المَلَكَيْن حين يسألانه، أمرت بإعداد الخرسانة بخلط الرمال بالأسمنت؛ وأشرت بأن تزيد كمية الأسمنت في الخليط، وددت لو كانت الخرسانة مُسلحة بأسياخ الحديد.

ناولت الحانوتيَّة بنفسي بهمة قوالب الطوب، نبهتهم أن يكون الجدار بعرض طوبة كاملة. لم يفتني سد الثغرة الأخيرة.

مررت بكفي بارتياح أتمم وأربت على الجدار للتأكد من تمام انسداد فوهة القبر، تنفست الصعداء.

بعد انصراف آخر المشيعين، دُرت أبحث عن حصاة لأخط بها على جدار القبر تاريخ الوفاة، انتفش منخارا أنفي؛ وارتفع حاجباي وتهيئت؛ ولكم كانت دهشتي بالغة عندما اكتشفت أنني لا أذكر اسم المَنْسِيّ.

اترك رد