مواقع التواصل الاجتماعي… منصات افتراضية للنصب والاحتيال، وتمثيليات الخداع الذكي لفريسة مغفّلة
بدر شاشا :
لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي في العصر الحديث مجرّد وسيلة للتعارف وتبادل الأفكار والتواصل الإنساني، بل تحوّلت في كثير من الحالات إلى مسرح واسع للخداع والنصب والتمثيل الاحترافي الذي يُمارَس على ضحايا لا يعرفون أن خلف تلك الصور الملمعة والأسماء الجذابة فخاخًا مدروسة بعناية، وأشكالًا من الاصطياد الإغوائي لا تقل عن شِباك محترفي الاحتيال في عالم الجريمة.
التيك توك، إنستغرام، فايسبوك، تلغرام، والإيميلات التي ترِد من حين لآخر تحت غطاء “ربح جوائز” أو “مساعدات”، ليست كلها أدوات ترفيه أو تواصل كما تُسوّق، بل باتت في جزء كبير منها منصات للاحتيال المتقن، حيث يطوّر المحتالون أساليبهم يوماً بعد يوم، ويواكبون آخر التطورات النفسية والاجتماعية، مستغلين ثغرات الثقة، واندفاع العاطفة، وضعف المعلومة لدى الضحايا.
في المغرب كما في باقي الدول العربية، تتعدد قصص النصب التي تبدأ برسالة عابرة أو فيديو مغرٍ أو وعدٍ بالثراء أو الزواج أو الهجرة، ثم تنتهي بابتزاز، تحويلات مالية، سرقة صور، اختراقات حسابات، أو حتى تدمير نفسي واجتماعي للضحية. لا فرق إن كانت الضحية رجلًا أو امرأة، شابًا أو مسنًا، مثقفًا أو بسيطًا، فأساليب الخداع لم تترك ثغرة إلا ودخلت منها.
تجد من يلبس قناع رجل أعمال على الإنستغرام، ويعرض نمط حياة مزيف بسيارات فاخرة وقصور، بينما في الحقيقة لا يملك ثمن كوب قهوة، وتجد من تنتحل صفة “مؤثرة اجتماعية” وتستعرض مفاتنها على التيك توك لأجل جمع الهدايا، أو استدراج الرجال نحو حديث خاص ينتهي غالبًا بطلب مساعدة مالية “مستعجلة”، أو ابتزاز باسم الحب.
أما تلغرام فقد أصبح مرتعًا لكل أنواع البيع المشبوه، من وعود الربح السريع عبر الفوركس والعملات الرقمية، إلى عروض بيع وظائف، وقنوات غامضة تبيع الوهم تحت أسماء خادعة. حتى البريد الإلكتروني لم يسلم، فلا تمر أيام دون رسائل “أنت الفائز”، أو “أحتاج مساعدتك في تحويل مبلغ مالي”، وهي نفس الأساليب القديمة التي طُوّرت لغويًا وتقنيًا لتواكب عقول اليوم.
المثير في الأمر أن بعض الضحايا، حتى بعد تعرضهم للنصب، يخجلون من الاعتراف، لأنهم وقعوا في فخ عاطفي أو خُدعوا بصورة، فيستمر المحتال في صيده، ويتضاعف عدد المتضررين.
ومن زاوية أخرى، تلعب هذه المنصات أيضًا دورًا تمثيليًا غير مسبوق، حيث لا أحد يُظهر وجهه الحقيقي، الكل يلبس قناعًا يناسب المشهد، فهناك من يمثل دور العاشق المثالي، أو المرأة المثقفة، أو رجل الأعمال الناجح، أو الطبيب الإنساني، وهم في الحقيقة أقنعة لغايات محددة، تبدأ بالتأثير وتنتهي غالبًا إما بابتزاز عاطفي، أو استغلال مالي، أو نشر محتوى يهدد سمعة الآخر.
الواقع أن المشكلة ليست فقط في وجود المحتال، بل في هشاشة وعي بعض المستخدمين، وغياب الرقابة الأسرية، وانعدام ثقافة الحذر الإلكتروني. كما أن القوانين في الدول العربية، رغم تطورها النسبي، ما زالت عاجزة عن مواكبة حجم الجريمة الإلكترونية المتنامية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بأشخاص يستعملون حسابات وهمية ويتنقلون بين منصات لا تخضع كلها لنفس الرقابة.
ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة لتربية رقمية جديدة، تنشئ جيلاً يعرف أن الصورة لا تعني الحقيقة، وأن كل حساب مجهول أو مغرٍ هو احتمال خطر، وأن تقديم المعلومات الخاصة أو إرسال المال في هذا الفضاء الرقمي لا يختلف كثيرًا عن رميها في البحر.
إنها حرب غير متكافئة، طرفها الأول عقل واعٍ ومتشكك، وطرفها الثاني محتال ذكي يستخدم أدوات العصر ببراعة. والنجاة فيها تبدأ من الشك في كل شيء يبدو “أجمل من الواقع”، لأن من يجيد التمثيل على الإنترنت لا يقل خطرًا عن من يرتدي قناعًا في الزقاق.