أحمد مصطفى:
أكد فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك تُعد من الأيام المباركة التي خصَّها الله تعالى بنفحات إلهية عظيمة وفيوضات كريمة، حيث تجلت فيها سنن الله في التفضيل بين الأزمنة، فجعلها من أكرم الأيام التي يُضاعف فيها الثواب وتُرفع فيها الدرجات، وهي أيام اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في اغتنامها والتعبد فيها، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
جاء ذلك خلال لقاء فضيلته الرمضاني اليومي مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج “اسأل المفتي” المذاع على فضائية “صدى البلد”، حيث تطرق فضيلته إلى فضل هذه الأيام المباركة، وأهمية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في استغلالها على أكمل وجه.
وأوضح مفتي الجمهورية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على هذه الأيام المباركة، فقد ورد في الأحاديث الصحيحة أنه إذا دخلت العشر الأواخر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، وهذا يدل على مدى اهتمامه صلى الله عليه وسلم بهذه الأيام وسعيه إلى اغتنامها بالطاعة والعبادة والاجتهاد في التقرب إلى الله تعالى.
وأضاف فضيلته أن هذه العشر تتضمن ليلة القدر، وهي الليلة التي جعلها الله خيرًا من ألف شهر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها في الليالي الوترية من العشر الأواخر، مستشهدًا بقول النبي: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر”. وهذه الليلة المباركة تمثل فرصة عظيمة للمسلمين لاغتنام الأجر والثواب والمغفرة، حيث قال الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. (1) · وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. (2) · لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ).
وأشار فضيلة المفتي إلى أن العشر الأواخر من رمضان ارتبطت بنزول أعظم كتاب سماوي، حيث أنزل الله تعالى القرآن الكريم في ليلة القدر، وهو ما جعلها ليلة مباركة عظيمة تتنزل فيها الملائكة وتفيض فيها البركات، مستشهدًا بقول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ).
وأضاف أن هذه الأيام تمثل محطة إيمانية ينبغي للمسلم أن يغتنمها بالإكثار من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء، مشددًا على ضرورة الإخلاص في العبادة والتوجه إلى الله تعالى بقلب صادق، بعيدًا عن الرياء والعجب والغرور.
وحذر فضيلة المفتي من العجب بالعبادة والغرور بالطاعة، مؤكدًا أن المسلم يجب أن يكون متواضعًا أمام عظمة الله تعالى، مستشهدًا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي”. وأوضح أن الطاعة الحقيقية هي التي تدفع الإنسان إلى مزيد من الخشوع والتواضع لله، لا إلى الغرور والتكبر، مشيرًا إلى أن بعض الناس قد يقع في فخ الاستعلاء بسبب عبادته، مما قد يؤدي به إلى الهلاك، كما قال بعض العلماء: “رُبَّ طاعة أورثت كبرًا واستعلاء، ورُبَّ معصية أورثت ذُلًّا وانكسارًا”.
وفي سياق متصل، أكد فضيلة المفتي على أهمية الدعاء في هذه الأيام المباركة، مشيرًا إلى الحديث الذي ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر فماذا أقول؟” فقال: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.
وأشار إلى أن الله تعالى ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: “هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟”، فكيف بهذه الرحمة العظيمة إذا تزامنت مع ليلة مباركة كمثل ليلة القدر؟ لذا فإن المسلم ينبغي له أن يغتنم هذه الأوقات بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
وختم فضيلة المفتي حديثه بالتأكيد على أن الأعمال لا تُقبل إلا بالإخلاص، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: “أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه”. موضحًا أن كل حركات الإنسان وسكناته يجب أن تكون خالصة لله تعالى، مستدلًا بقول الله عز وجل: (قل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ).
وأكد فضيلته أن هذه الأيام العشر الأخيرة من رمضان فرصة عظيمة للعباد، وينبغي على كل مسلم أن يغتنمها بالتوبة الصادقة والحرص على الإخلاص في العبادة والتقرب إلى الله تعالى، سائلًا المولى عز وجل أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال، وأن يبلغهم ليلة القدر، ويجعلهم من عتقائه من النار في هذا الشهر الفضيل.
وفي سياق متصل أجاب فضيلة المفتي في ختام الحلقة عن أسئلة المشاهدين من أبرزها تفسير قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، وحكم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، والفارق بين صلاة التراويح والتهجد، وأفضل الأدعية التي يمكن للمسلم أن يدعو بها.
وأوضح فضيلة المفتي أن هذه الآية من الآيات التي اختلف العلماء في تفسيرها، فمنهم من رأى أن “الليالي العشر” تشير إلى العشر الأواخر من رمضان، لما لها من فضل عظيم، وارتباطها بليلة القدر التي هي “خير من ألف شهر”، فيما ذهب فريق آخر من العلماء إلى أن المقصود بها العشر الأوائل من ذي الحجة، والتي تشمل أيامًا مباركة مثل يوم عرفة ويوم النحر.
وأشار فضيلته إلى أن بعض العلماء جمعوا بين الرأيين، فرأوا أن لكل من العشرين يومًا المذكورين مزية وفضلًا، فالعشر الأواخر من رمضان ترتبط بعبادة الصيام وقيام الليل، بينما العشر الأوائل من ذي الحجة ترتبط بالحج، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام.
وأكد الدكتور نظير عياد أن الله سبحانه وتعالى لم يحدد هذه الليالي في الآية الكريمة، وهذا التنكير يفيد العموم، مما يدفع الإنسان إلى البحث والتنافس والاجتهاد في العبادة، سواء في رمضان أو في ذي الحجة، والتطلع إلى نيل رضا الله سبحانه وتعالى.
كما تحدث فضيلة المفتي عن حرمة الزمان، مؤكدًا أن الأزمنة المباركة لها قدسية خاصة، وهو ما يتطلب من الإنسان المسلم أن يتعامل معها بإجلال واحترام، ويستعد لها تخطيطًا وترتيبًا، حتى يكون من الفائزين بنفحات الله عز وجل. واستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن لله في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها”، موضحًا أن هذه النفحات ترفع من درجات المؤمن وتوصله إلى معارج الطاعة والعبادة.
وأضاف أن الله في القرآن الكريم أقسم بأوقات بعينها، مثل الفجر، والعصر، والضحى، مما يدل على مكانة هذه الأزمنة وأهميتها في حياة المسلم، حيث تحمل إشارات إلى وجوب التمسك بالطاعة، والسعي إلى الصلاح الفردي والمجتمعي، وهو ما أكدته سورة العصر، التي أوضحت أن الإنسان في خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
وفيما يتعلق بالفارق بين صلاة التراويح وصلاة التهجد، أوضح فضيلة المفتي أن كلتاهما تندرج تحت صلاة قيام الليل، إلا أن التراويح تختص بشهر رمضان المبارك، وتُصلَّى بعد صلاة العشاء، وتُفضل في المسجد وفي جماعة، وتكون ركعتين ركعتين.
أما صلاة التهجد، فهي صلاة يؤديها المسلم بعد الاستيقاظ من النوم، ويفضل أن تكون في الثلث الأخير من الليل، ويمكن أن تُصلَّى ركعتين أو أكثر، ولا يشترط فيها أن تكون في المسجد أو في جماعة، بل يجوز أداؤها في المنزل.
وعن الأدعية التي يمكن للمسلم أن يدعو بها أثناء الصلاة، أكد فضيلة المفتي أن باب الدعاء واسع، ويجوز للعبد أن يدعو الله تعالى بما يشاء من الخير، إلا أن هناك بعض الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: “اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت…”، مشددًا على أن الدعاء ينبغي أن يكون نابعًا من القلب، وأن يكون العبد حاضر الذهن خاشعًا متضرعًا إلى الله تعالى.
أما فيما يتعلق بالاعتكاف، فقد بيّن فضيلة المفتي أنه سنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في العشر الأواخر من رمضان، حيث كان النبي يعتكف في المسجد، متفرغًا للعبادة والذكر والدعاء.
وأكد أن الاعتكاف ليس له مدة محددة، ويستحب للمسلم عند دخوله المسجد أن ينوي سنة الاعتكاف، حتى لو مكث فيه وقتًا قصيرًا، مشيرًا إلى أن المقصود من الاعتكاف هو تحقيق الخلوة مع الله، والابتعاد عن مشاغل الدنيا، والتفرغ للعبادة.