مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

مـوت القـط الأحمــــر ” قصة قصيرة “

بقلم – عادل المعموري
كعادته كل ليلة ينتهي من آخر كأس له ..يمر بذات الشارع الكبير المؤدي إلى الخان الذي يسكنه مع المشردين ، يجلس على دكة الرصيف لينتظر القطة الحمراء التي أصبحت صديقة ملازمة له ..في جيب سترته يحمل كيساً صغيرا من بقايا فتات موائد الخمّارة الذين يشاطرونه الشراب ..القطة الحمراء إعتادت الحضور بقربه كلما رأته جالسا على دكّة الرصيف ..يشرع بتقطيع الخبزة وتفريق العظام بأصابعه ويضعها أمامها ..ما أن تنتهي من وجبتها ،يقوم بجمع بقايا ما زهدت فيه ويجمعه في الكيس من جديد ثم يرميه في سلة الأزبال القريبة من عمودالشارع ذي النور الشاحب .
تقفز بعدها في حضنه ويشرع بتمسيد شعرها بأصابعه بكل رقة وحنان ..تنوس تحت دفء أصابعه وتغمض عينيها مسترخية في حضنه ،إن غالبه النعاس ،ينهض من جلسته ويتركها ملوّحا له بيده ..تقف هي متسمرة في مكانها تنظر إليه حتى يبتلعه الظلام .
ذات ليلة كان يجلس على دكّة الرصيف والقطة منهمكة بالتهام ما جلبه لها من طعام ..ينظر إليها بحبوروهو مستأنساً بطريقتها في تهشيم العظام بأسنانها .. فجاة تمرق سيارة مسرعة لايعرف من أين أقبلت ..فتضرب الرصيف بمقدمتها ،ثم ترفع معها القطة وترمي بها بعيدا ،استطاع تفادى عجلات السيارة بحركة سريعة لم يكن هو يتوقع أن يفعلها ،السيارة التي دهست القطة لم تتوقف وارتطمت بحافة الرصيف العالي .. بعد قليل اجتاحت الرصيف عنوةًوغابت في جنح الظلام ..أدركَ على الفور أن السائق لم يكن في وعيه اطلاقا ، رغم أنه لم يتبّين ملامحه بشكل واضح ..فقط كان مسجّل السيارة العالي يبث أغنية لمطربة غجرية معروفة ،
يقترب من القطة التي تمدّدت وسط الشارع والدماء تنز منها ..قلّبها بيده ،وجدها جثة هامدة ،يجلس القرفصاء وهو ينظر إليها مذهولا وعيناه تبرقان بالدموع .
الشارع كان خاليا تماما والهدوء يعم المكان .. قام برفع القطة بيديه وهو ينظر حائرا مركّزا نظره نحو الحديقة ..يبدو أنه يبحث عن مكان ليقبرها فيها ..أعيته الحيلة في الحصول على آلة ليحفر لها قبرا ،إقترب من شجيرات الآس المتشابكة وطفق يحفر بيديه الطين الرخو تحتها ..لضعها في الحفرة ويهيل التراب الندي فوقها ،غسل يديه بالماء المتجمع قرب حفرة أثل ثم انسحب ليعبر الشارع ،كان يتمتم بألم وهو يسب ويشتم السائق الذي حرمه من قطته الوديعة .
بضع خطوات مشاها داخل الزقاق وهو يجر قدميه بصعوبة يسمع صوتا غريبا ..كان مواء لقطة يصدر من خلفه، لم يلتفت وتابع سيره يملؤه الحزن والألم ،
شعر بشيء ما يلتف تحت قدميه كاد أن يسقطهُ على وجهه،..فوجيء بالقطة وهي تموء بين قدميه ،أشعل قداحته وهو يرتجف، ينظر إليها مفزوعا ..يهز رأسه من هول الصدمة ..تلك قطتة الحمراء هي بعينها ،ولكن أين آثار الدماء التي عليها ،وجهها الذي شوهته الصدمة بمقدمة السيارة لم يعد مشوها ؟ ،تراجع نحو الوراء بخطوات وهو يتعوذ من الشيطان ،أخفض رأسه وهو يعقد مابين حاجبيه ،يقرّب وجهه منها ..بغتة تقفز نحوه وهي تكشّر عن أنيابها ..سمعها تصدر صوتا أشبه بفحيح أفعى ..تركها وشرع يخبُّ ،لا تكاد قدماه أن تحملانه، أوعز تلك الخيالات والأوهام إلى (العرَق) الذي شربه بكثرة.
يطرقُ باب الخان بطرقات شديدة ..بعد لأي يخرج له صاحبه النحيف الذي يشاركه الغرفة.. عاريا إلا من سروال قذر يستر حوضه وساقيه المعوجتين.. يدخل مسرعا، يغلق باب الخان الذي كانت مفاصله تصدر صريرا مزعجا ..يقف خلفه ليسترد أنفاسه المتلاحقة ..يسأله رفيقه المتسول عما حدث ،لم يفه بكلمه ..تركه صاحبه وهو يهز رأسه بلا مبالاة واختفى
ظلَّ واقفا لصق الباب ..ظل هكذا لدقيقتين ، ثم طوى جذعه وهو ينظر من فتحة الباب السفلية ..لم يرَ شيئا.. يفتح الباب ملقيا نظرة تفحّص أخيرة ،فيما لوأن القطة لازالت تلاحقه .. لم يجد لها أي أثر..تنفس الصعداء .وأغلق الباب .
في أول الصباح قرر أن يذهب إلى الحديقة ليتاكد من حقيقة موتها.. اقترب من شجيرات الآس و نبش المكان بعصا من غصن مرمي على الأرض ..وجدها كما هي ترقد في حفرتها وقد تيبس الدم على وجهها وجزء من رأسها مهشما ،أعاد التراب الندي فوق جثتها ثم قطف زهرة حمراء وضعها فوق قبرها ، وهو يترك المكان لا يلوي على شيء.
عندما عاد ليلاَ في ذات الشارع ..لم يجلس على دكّة الرصيف هذه المرّة ..فقد غذّ السير ماشيا نحو مسكنه ،لايدري مالذي جعله يلتفت نحو الرصيف .. فقد لمح لقطة الحمراء ذاتها تقعي على الرصيف وهي تتلمظ بلسانها تتناول طعامها من ذات الكيس الذي كان في جيبه !

اترك رد