كتب – محمد صبحي:
منذ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس، واعتبارها عاصمة لإسرائيل، ولا يكاد يمر يوم دون أن يحمل تطورا سلبيا للعلاقات العربية الامريكية، وفي القلب منها العلاقات بين القاهرة وواشنطن، والتي وصلت إلى حد المواجهة الدبلوماسية عقب تقدم مصر بمشروع قرار إلى مجلس الأمن، لرفض القرار الأمريكي، إلا أن الولايات المتحدة أجهضته باستخدام حق النقض “فيتو” للمرة الأولى منذ ٦ سنوات، لوقف تمرير مشروع القرار.
المواجهة الدبلوماسية تواصلت كذلك مع قيادة مصر لتحركات دبلوماسية مكثفة لحشد التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد القرار الأمريكي، وبالفعل خرج التصويت محرجا للولايات المتحدة بأغلبية ١٢٨ صوتا لصالح قرار يدعو الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، فيما اعترضت 9 دول، وامتنعت 35 دولة عن التصويت لصالح القرار الذي استبقته واشنطن بالتهديد بوقف المساعدات المالية التي تقدمها لتلك الدول، وبلغت حملة التهديدات الأمريكية مداها بتلويح الرئيس ترامب بقطع المعونات عن الدول التي ستصوت لصالح القرار، وهو ما فسره مراقبون على أنه إشارة إلى انتهاء لشهر العسل القصير في العلاقات المصرية الأمريكية، والتي يبدو أنها ستواجه شتاء قارص البرودة، لا سيما مع قرار تأجيل زيارة نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، والتي كانت مقررة إلى مصر خلال الشهر الجاري.
ورغم أن التلويح بقطع المعونة الأمريكية لا يعد الأول من نوعه ولن يكون الأخير فدائماً ما تستخدمها الولايات المتحدة كورقة ضغط على مصر لتحقيق مصالحها السياسية، إلا أن التهديد هذا المرة يكتسب دلالة خاصة، فهو يأتي في ظل تحسن ملموس للعلاقات الثنائية عقب فترة من الارتباك والجمود خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، فضلا عن أن التلويح بورقة المعونة هذه المرة يأتي في سياق قضية لا تمس صلب العلاقات الثنائية، وانما تتعلق بقضية ذات طابع قومي لا يمكن لمصر التغاضي عنه، بل يمثل أي تراجع فيه حفاظا على علاقاتها مع واشنطن، مساسا بدورها العربي والإسلامي.
والحقيقة أن ورقة التهديد الأمريكي بقطع المعونة أو تخفيضها بدأت تفقد قيمتها بالفعل لدى المصريين، أولا من كثرة ما تم استخدامها، فباتت مستهلكة وعديمة التأثير، فضلا عن تغير السياق الاقتصادي والسياسي الذي كانت تستغله واشنطن للضغط على القاهرة، فالمعونة الأمريكية تنقسم إلي ثلاثة أجزاء أبرزها الجزء العسكري ، والذى انخفضت قيمته إلى 1٫1 مليار دولار بدلا من (1٫3) مليار دولار؛ وأغلبها مجمد وتحصل عليها مصر في صورة معدات وصيانة وتدريب واستشارات، بعكس اسرائيل التي تحصل عليها بشكل نقدي مما يخل بالتوازن العسكري بين مصر واسرائيل، والجزء الثاني يتمثل في عمليات بيع القمح الأمريكي بأسعار مرتفعة وبفائدة بسيطة أما الجزء الأخير فيتم توجيهه للتنمية.
والشق الاقتصادي تستفيد منه الشركات ومراكز البحوث الأمريكية التي تقوم بعمل دراسات الجدوي لمشروعات التنمية بنسبة تصل إلي 45% من إجمالي النسبة المخصصة للاقتصاد. أي أن المواطن العادي لا يستفيد استفادة حقيقية من المعونة الاقتصادية. كما أن قيمتها تشكل نسبة هزيلة في الموازنة المصرية، وبعد آخر تخفيض فى المعونة الاقتصادية بنحو يصل إلى (290) مليون دولار؛ لم يعد متبقيا من هذه المعونة سوى 94 مليون دولار فقط، تمثل أقل من 1% من الناتج المحلى الإجمالى.
ومن المهم في هذا السياق أيضا إدراك أن التهديد الأمريكي بخفض أو وقف المعونة لا يمثل أداة ضغط سياسية فحسب، بل ربما يمثل اتجاها واضحا منذ أوائل التسعينيات لتقليص المعونات الحكومية، وقد بدأت أمريكا في تطبيق هذا التوجه على مصر منذ يناير 1998 ، حيث تقرر تخفيض المعونات الاقتصادية اعتبارًا من عام 1999 بنسبة 5 % تقريبًا في كل سنة، أو بنحو 40 مليون دولار في كل سنة حيث انخفضت المعونات الاقتصادية إلى النصف تقريبًا بحلول عام 2009 من 815 مليون دولار في 1998 إلى 407.5 مليون دولار في عام 2009، وقد وصلت حاليا إلى نحو ٩٤ مليون دولار، وهو رقم لا يمثل الشيء الكثير للاقتصاد المصري حاليا، سيما وأن معظم المشروعات التي تمولها المعونة لا تمثل أهمية تذكر للاقتصاد المحلي، أو لمشروعات التنمية الحقيقية.
كما فقدت المعونة العسكرية الكثير من تأثيرها نتيجة التوجه الاستراتيجي المصري بتنويع مصادر التسليح وعدم وضع كل الخيارات في السلة الأمريكية، فضلا عن التوسع في التصنيع العسكري محلياً، وهذه البدائل ليست في صالح الولايات المتحدة.
وتؤكد مراكز أبحاث تابعة للكونجرس أن مصر حصلت بين عامي 1948 و2016، على 77.4 مليار دولار، وهو ما يقل كثيرا عما دفعته الولايات المتحدة كي تدعم إسرائيل وتحافظ على تفوقها الاستراتيجي في المنطقة، وربما آن الآوان لوضع نهاية لورقة المعونة الأمريكية، بعدما سقطت ورقة التوت الأخيرة عن العم سام، ولم يعد حتى يهتم بمداراة دعمه السافر لإسرائيل وراء كلمات الدبلوماسية الملونة.