محمد حسن حمادة يكتب: من رحم الولادة والإعاقة يولد الحلم
الحلقة الأولي.
لم يكن شارعنا شارع القصبة مجرد شارع عادي كبقية شوارع طنان بل كان ومازال هو حجر الزاوية الأول لطنان فشارع القصبة له خصوصية خاصة متفردة فعلاوة علي أنه لب طنان العتيقة القديمة الجميلة وهو الطريق الأول لأقدم وأهم مسجدين بطنان الجامع الكبير ومسجد العراقي كان شارع القصبة بمثابة جامعة عظمي تخرج فيها أجيال وأجيال فتخرج في هذا الشارع الطبيب والمهندس والصحفي والرياضي والدكتور والمستشار وأساتذة جامعيين وقامات وقيادات في كل المجالات تقريبا والجميع بلا استثناء تقريبا حفظة للقرآن الكريم، كم مر علي شارع القصبة من ويلات وأطراح وأفراح لكن تجد الجميع علي قلب رجل واحد الشارع كله في حالة الحزن يتحول لسرادق عزاء كبير والكل يواسي بعضه بعضا وفي مناسبات الفرح تجده قاعة أفراح واحدة بزغرودة واحدة تخرج من القلب، التجانس والوحدة هما الإرث الحقيقي الأول لشارع القصبة، لاأعرف سبب تسمية الشارع بهذا الاسم وإن كان أغلب الظن نقلا عن رواية الأجداد أن الشارع في وقت ما كان يزرع فيه القصب في أي زمن لاأدري وإن كان ظني يسوقني إلي العصر الفرعوني؟
ومايرجح ذلك من وجهة نظري هو البئر الكبير الذي يخترق الشارع ولاأحد يعرف أوله من آخره ومن شاهده يصف مياهه بأنها صافية هادرة مخيفة تخترق شارع القصبة حتي تصل إلي بداية مسجد العراقي كان لهذا البئر ضحايا أشهرهم سحر التي حدثونا عنها وعن جمالها وعن سقوطها في البئر وهي تلهو ببراءة فتطوع أحدهم وكان يدعي السيد/ محيي محفوظ وكان سباحا ماهرا نزل إلي عمق البئر لإنقاذها ولكن للأسف أعادها جثة هامدة مازال هذا البئر علي حاله لم يجف بعد ومازال مصرا كشارع القصبة علي عدم البوح بأسراره حتي لأهل شارع القصبة أنفسهم، أما أنا فقررت البوح بقصته وقصتي في شارعي وموطني الأول شارع القصبة بكل جرأة وقوة وأن أكون راوي الشارع الأول.
كنت هناك شاهدا علي بعض أحداثه معاصرا لرجاله الذين تعلمت منهم الكثير والكثير وكان الشارع أيضا شاهدا علي طفولتي التي كانت كقيظ مرعب تزيد لهيب الشارع وتضج مضاجعه.
ولدت في هذا الشارع العتيق في أوائل الثمانينيات وتحديدا في 5/1/1981 لأسرة فوق المتوسطة لأبوين يمتان لبعضهما بصلة قرابة فالوالدة بنت خال الوالد وهو ابن عمتها تزوجا عن حب وقناعة كنت أنا أول فرحتهما كان أبي متلهفا للخلفة فقد تزوج في سن الثلاثين ويريد أن تقر عينه وعين أبويه بالخلف الصالح والظهر والسند كما هي عادة أهل الريف.
كانت طنان قليوب قليوبية هي مسقط رأس الأسرتين إلا أن أسرة الوالدة نزحت إلي القاهرة فولدت أمي في القاهرة.
ولدت سليما معافي رابيا وسيما حتي الشهر التاسع إلي أن باغتني فيروس منتشر في الجو فسبب لي( السخونية)
فذهبت أمي علي الفور للطبيب الذي أعطاني حقنة بالخطأ.
تروي لي أمي عن هذه الليلة أنني كنت في حالة هياج وتشنج وعيني تنظر في كل اتجاه لدرجة أنها خافت مني وعليّ وخافت أن يكون عقلي قد أصابه لوثة فنظرت إلي السماء ودعت الله سبحانه وتعالي أن يحفظني ويحفظ عقلي وقالت
“يارب إن أردت به مكروه فليس في يده أو عقله” (اللهم أحفظ عقله ويده.)
ولما لمح النهار ذهبت والدتي للطبيب ثانية لكن الطبيب لم يعترف بخطئه ولو لم تأخذه العزة بالإثم لكان حالي ومصيري تغير لكنها إرادة الله يسبب الأسباب.
بعد التغيرات التي حدثت لقدمي اتجهت أمي إلي معهد شلل الأطفال بامبابة فشخصوا حالتي ضمور في عضلات الساق اليمني (شلل أطفال) انهارت أمي واستغرقت ردحا من الزمن حتي تصدق وتتعاطي مع الأمر الواقع وقبل ذلك ذهبت كعب داير للمستشفيات المتخصصة ولاستشاريين كبار باحثة عن بريق أمل ولكن تصطدم بنفس التشخيص السابق نصحها جميع الأطباء بتكثيف العلاج الطبيعي ولما يبلغ الحلم سيحتاج لعمليتين جراحيتين عملية تطويل في الساق وعملية أخري لتثبيت الكاحل.
رحلة من العذاب والمعاناة عاشتها والدتي وبالتبعية والدي.
منذ ولادتي وحتي الشهر التاسع من عمري كانت فرحة الأسرة كبيرة ولما أصابني ما أصابني انطفأت فرحة البيت وأصاب الكمد والحزن الأسرة وخاصة جدي وجدتي.
حالة طؤارئ واستنفار قصوي وتعبئة عامة في البيت كله فالجميع يشارك في (كورس) علاجي الطبيعي فجدي وجدتي وعمتي الوردية الصباحية ووالدتي ووالدي الوردية المسائية هذا فضلا عن الجرعة الأساسية في مستشفي الخليفة العام.
كان الجميع يشفق علي أمي ففي نفس وقت مرضي حملت وأنجبت أخي عمرا فزاد عليها الحِمل.
تروي لي أمي لحظة فريدة اختلط فيها فرحها بحزنها، عندما بدأ أخي عمرو يتهجي المشي وأنا مازلت أسحف بقدمي وأجرها ورائي كانت ترويها لي وعيناها مغرورقتان بالدموع ثم تنهدت وقالت الحمد لله مشوارا كان طويلا وصعبا تعبنا فيه لكن الحمد لله قدر الله وماشاء فعل هذه هي الحياة وهذا قضاء الله وقدره ونحن راضون به منصاعون لإرادته.
قبل دخولي المدرسة ألحقنا أبي بُكتاب الشيخ مسعد الذي تعلمنا فيه القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، في بداية التحاقي بالكتاب وحتي أواخر المرحلة الابتدائية كنت طفلا مستقيما متميزا حافظا للقرآن الكريم مواظبا علي حفظ اللوح لم أسبق أقراني فقط بل تميزت عن من هم أسن مني ولكن انقلب الحال رأسا علي عقب.
أذكر في هذه المرحلة أنني كنت أرتدي في قدمي (الجزمة الطبية) وكانت سوداء كبيرة ومدببة كنت أقتحم صفوف الكُتاب بها و(ياويله) من تقع جزمتي علي أصابع يده أو قدماه فمصيرهما (الفرك) فقد كان من الصعب عليّ خلعها كانت هذه الجزمة الطبية بمثابة جمرة من نار تأكل في قدمي وكان لزاما عليّ ارتداؤها جيئة وذهابا في الكُتاب والمعهد ولكني كنت أتحرر منها عند ممارستي لكرة القدم.
نعم كرة القدم التي زاد شغفي بها لدرجة وصلت إلي الجنون وظهرت موهبتي في حراسة المرمي لكن كان شيئا ينقصني عند ممارستي لهوايتي المفضلة فقد كنت ألعب بخجل عندما ألحظ أن كل الأنظار تركز علي إعاقتي وعلي قدمي اليمني تمنيت لو تغلبت علي هذا الحاجز النفسي الرهيب ولكني فشلت إلا في مرات ومباريات معدودة كنت أنسي العالم بما فيه فأدهش الجميع بموهبتي وفي التصدي لكثير من الكرات الصعبة التي كانت بمثابة أهداف محققة كانت هذه هي أجمل لحظات حياتي.
ألحقني أبي بالمعهد وكنت من المميزين فيه كل شئ يسير علي مايرام تميز في الدراسة وهذا بفضل الله ورعاية أمي التي كانت مواظبة علي المذاكرة لنا يوميا وأبي الذي كان يحوطنا ويرسم لأمي الخطوط العريضة لشرح المواد المختلفة ومراجعة ماحفظناه من القرآن الكريم.
أنهيت المرحلة الابتدائية وكنت من الخمسة الأوائل علي المعهد وها أنا ذا علي مشارف الصف الأول الإعدادي.
لم يكن في قريتي طنان معهد إعدادي آنذاك فكان لزاما عليّ الالتحاق بمعهد قليوب الإعدادي الثانوي ممايستلزم سفرا ومواصلات كان هذا الأمر صعبا عليّ وعلي كل الأطفال في سني ولكن لم يكن أمامنا بديل.
كانت هناك مفاجأة لاأدري أكانت مفاجأة سارة أم سيئة في انتظارنا.
زغاريد وتهاني من الأقارب والجيران وأصدقاء أبي والسبب أبي سيعار للملكة العربية السعودية.
قبل سفر أبي كنا ميسوري الحال كان أبي مدرسا أول في مدرسة شبرا الخيمة الثانوية العسكرية للبنين وكان يعطي دروسا خصوصية وبأرقام متميزة فلم ينقصنا شئ فلمً السفر والغربة؟
وجهت لأبي هذا السؤال فقال لي بحثا عن المستقبل حتي نعيش في بيت كبير أو فيللا بجنينة فيللا بجنينة!!!
اقتنعت وبالفعل سافر أبي إلي المملكة العربية السعودية كانت السنة الأولي صعبة جدا عانيت فيها من سفر أبي وغيابه عني أذكر عن هذه الفترة عندما كان يذكر اسم أبي أو سيرته أبكي بحرقة كان يذاع آنذاك في التليفزيون المصري مسلسل أولاد آدم أسمع تتر المقدمة
“ياعم آدم عيالك متبعترين في المتاهة” فأجهش بالبكاء وبشكل هيستيري أيقنت من شعوري نحو أبي أنه بمثابة كل شئ وبدونه أنا لاشئ.
وفي الستة أشهر الأولي لأبي في المملكة العربية السعودية حدثت حرب الخليخ الثانية في مطلع عام 1991. وكانت امتحانات نصف العام آنذاك ونهاية هذه الامتحانات يوم 13 يناير من نفس العام
وحددت قوات التحالف أن يكون الاقتحام البري الذي تصدرته القوات المصرية في 15 يناير.
يروي لي أبي أنه كان ضمن المجموعة التي غادرت المنطقة الشرقية إلي المدينة المنورة في فجر يوم 15 يناير دوت صافرات الإنذار في كل مدن المملكة بما في ذلك مكة والمدينة رغم بعدهما عن أتون الحرب.
أصاب بيتنا حالة من الكرب والحزن والهم كانت الوجوه تبكي وتشي بما في القلوب أمي في حالة يرثي لها أما جدي وجدتي فكانا كلما سمعا أغنية عبدالله الرويشد
(اللهم لا اعتراض.) تزداد حسرتهما.
غدت الأغنية هي الأغنية الرسمية لهذا الغزو المأساوي الذي أصاب الجسد العربي بشرخ مازالت الأمة العربية تعاني من آثاره حتي الآن.
استنكرت الأمة هذا الفعل العدواني الغاشم من قِبل بلد عربي ضد أخر شقيق.
هزت كلمات الأغنية مشاعر العالم العربي قاطبة فكانت الأغنية هي المتحدث الرسمي بلسان أهل الكويت.
كانت الأغنية بلغة السوشيال ميديا اليوم (ترند) وسرعان ماغزت كل شاشات وإذاعات مصر والدول العربية ليتحول البيت إلي نواحٍ وعويل بل وكأن العالم العربي من محيطه لخليجه في سرادق عزاء كبير.
(صدام حسين يحتل الكويت.)
كانت هذه هي مانشيتات الصحف المصرية والعربية والعالمية فلاصوت يعلو فوق صوت عملية عاصفة الصحراء، التي اندلعت نيرانها في السابع عشر من شهر يناير واستمرّت حتى الثامن والعشرين من شهر فبراير من سنة 1991م، ولم تتجاوز مدتها السبعة أشهر.
ليتشكل تحالف دولي تألف من أربع وثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة ضد الجمهورية العربية العراقية لتحرير دولة الكويت العربية من احتلال دولة العراق العربية.
كانت الآلة الإعلامية المصرية تمهد للحرب
وكل المؤشرات تصب في خانة الحرب ونحن لانعرف مصير أبي فقد كان أبي في منطقة الخافجي التي كانت مسرحا من مسارح حرب الخليج تبعد عن حدود الكويت بثمانية كيلو مترات أطلق صدام حسين صواريخ (سكود) علي المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية حتي إنها وصلت إلي الرياض فأجبر المملكة علي الدخول في الحرب.
لم نهدأ إلا عندما نزل أبي إلي القاهرة لمناقشة رسالة الدكتوراة كانت فرحة لايعادلها فرحة ضج بيتنا بالفرح والزغاريد ثانية كان لنجاح أبي صدي كبيرا في بلدتنا انعكس علينا بالإيجاب صار الناس ينادونني (يادكتور ياصغير) لكن دائما اللحظات الجميلة مسرعات انقضت الأجازة وبعدها سافر أبي.
انشغلت أمي ببناء الفيللا بجنينة شمرت عن ساعدها ووقفت كما يقف الرجال وحافظت علي أموال أبي وعلي غربته كانت مضرب الأمثال في القرية أذكر عندما تأخر أبي في إرسال الحوالة البريدية لم تنم أمي وكانت (لاعلي حامي ولا بارد) جمعت كل مصاغها عن طيب خاطر وباعته وقالت هل أنتظر حتي يأتي من يطالبنا علي باب البيت، أما جدي رحمه الله الذي كان كل حلمه أن يذهب لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وبالفعل في هذا العام حجز له أبي بإحدي شركات الحج والعمرة ولما تأخر أبي في إرسال الأموال ورأي جدي موقف أمي استرد من الشركة المبلغ المدفوع وأعطاه لوالدتي حتي تسدد ماتبقي من ثمن الحديد والأسمنت وتدفع عربون تجهيزات التشطيب.
فترة الإعدادي بالنسبة لي هي أسوأ فترات حياتي فأمي تسابق الزمن للانتهاء من عملية بناء الفيللا وأبي في الغربة وجدي وجدتي بلا حول ولا قوة (لأنهما من الناس البركة بتوع زمان) كان جل همهما أن يرياني سعيدا كان حبهما لي يفوق الوصف فكانت جدتي تغطي علي كل أخطائي وتجتهد في ذلك لكي لاتعرف أمي فأصبحت بلا رقيب أو حسيب ولسوء الحظ في نفس الفترة تعرفت علي أصدقاء السوء حتي أدمنت كرة القدم التي كرست لها كل وقتي وصرت زعيم الشارع والشلة مما انعكس بالسلب علي التحصيل والدراسة.
وصل بي التهور والطيش جراء عدم الرقابة أن تغيبت عن حضور الامتحانات لذلك رسبت في الصف الثاني الإعدادي (وِعدت السنة) لأول مرة أعرف طعم الرسوب تجاوزت هذه السنة بالكاد ثم أصبحت في الإعدادية الأزهرية عاد إلي بعض من توازني وشهيتي للدراسة ومستواي والسبب أن الأمل كان يحدوني أن أسمع رقم جلوسي في إذاعة القرآن الكريم فقد كان من تقاليد الإذاعة وقتها إذاعة نتيجة الإعدادية والثانوية الأزهرية عبر أثير إذاعة القرآن الكريم.
كان من عادة أهل الريف متابعة إذاعة القرآن الكريم وخاصة في وقت إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية والثانوية ومن يسمعون رقم جلوسه في الإذاعة يصبح فاكهة القرية وعريسها ويشار إليه بالبنان ويتغير حاله من حال إلي حال.
أما بالنسبة لي نظرا لشهرة أبي وبيتنا فكان بعضهم يسألني عن رقم جلوسي بعضهم يحفظه وبعضهم يدونه ومابين محب ومشجع( ناجح ومن الأوائل إن شاء الله ) وما بين متابع ومتحفز للشماتة وأنا أتأهب لحدث جلل لم يراودني شك في نجاحي فكنت أعطيهم رقم جلوسي بكل ثقة.
ظهرت نتيجة الإعدادية نجح واحد فقط من معهدنا جميعنا إلي الآن لاندري كيف نجح؟
حتي هو نفسه لم يصدق النتيجة، ففي نفس اليوم الذى أعلنت فيه النتيجة حضر إليً ومن أول الشارع وبصوته العالي الجهوري:
“محمد يامحمد كلكم (سقطوا) وأنا الوحيد إللي نجحت”
زفني وفضحني في الشارع وأنا في قرارة نفسي أتمتم الله…….ياابن آل…..
نجحت في كل المواد الصعبة ورسبت في مادة التجويد!!!
كرهت الإذاعة ولم أعد أطيق سماع أي صوت يصدر من راديو قريب أو بعيد مني حتي كاد الأمر يتحول لعقدة ولفوبيا مرضية.
دخلت امتحان الملحق ونجحت، ومن يومها أقسمت لأبي أن لاأرسب ثانية وقد كان.
أنهي أبي سنة الإعارة الرابعة والنهائية عرضوا عليه التجديد في المملكة وبراتب أكبر لكن أبي وأمي رفضا، فنحن في مرحلة صعبة وللغربة ضريبة وثمن مافائدة الأموال والأبناء ضائعون؟
ونحن في سن خطرة وفي مفترق طرق وضع أبي الأموال في كفة ومستقبل أبنائه في كفة أخري فرجحت كفة الأبناء
وعاد أبي إلي مصر.
كان جل حلم أبي فيللا بجنينة وهاهو الحلم قد تحقق.
أنا الآن في الصف الأول الثانوي الأزهري بمعهد قليوب الإعدادي الثانوي القسم الأدبي فلم تكن ميولي علمية بل أدبية بحتة.
شاء القدر أن تنتهي الجمعية الخيرية التي يرأسها أبي من بناء معهد ديني أزهري للبنين بطنان ويشترط الأزهر علي الجمعية أن من يحق له النقل من طلاب طنان من هم في الصف الأول الإعدادي والصف الأول الثانوي وغير ذلك فلا يسمح لهم.
هنا أيقنت أن القدر في صفي وأن القدرة الإلهية تهيئ لي طريقي وأن الله سبحانه وتعالي راضٍ عني فقد ظننت أنني بعيدا عن الله سبحانه وتعالي لذلك عاقبني (بالرسوب) في الصف الثاني الإعدادي ولكن حكمة القدر أن أرسب في الصف الثاني الإعدادي ولولا هذه السنة التي رسبت فيها ماكنت نقلت لمعهد طنان الإعدادي الثانوي.
بقدر ضئيل من المذاكرة والإجتهاد كنت أشطر وأميز زملائي والأول عليهم بلا مجهود علي الرغم من صعوبة الأزهر ومواده الدينية والأدبية فضلا عن القرآن الكريم الذي يحتاج وحده لطاقة كبيرة كنا ندرس مايقرب من عشرين مادة، كنت الأول في السنة الأولي والثانية والثالثة الثانوية وها أنا ذا في الصف الرابع الثانوي الذي أنهيت امتحاناته كنا نمتحن في( قها) بلدة مجاورة لبلدتنا مشهورة بصناعة الأغذية المحفوظة منذ الحقبة الناصرية بذلت جهدا كبيرا في أيام الامتحانات لم أتذوق فيها طعم النوم وأعيش علي نفس الحلم والأمل سماع رقم جلوسي عبر أثير إذاعة القرآن الكريم.
تري هل يتكرر نفس سيناريو الشهادة الإعدادية؟
الخوف والرعب يسيطران عليّ أخشي تكرار هذا السيناريو.
بعد انتهاء امتحانات الثانوية كان لزاما عليّ القيام بجولة طبية لأصل إلي قرار بشأن العمليتين الجراحيتين لقدمي اليمني.
ذهبت لعدة استشاريين وأهمهم وأكبرهم وأشهرهم وكان يدعي د/ فاروق قورة حدد لي موعدا في نهاية الأسبوع الذي تصادف أن يكون في نفس موعد إعلان النتيجة.
اخترت الذهاب للاستشاري الكبير كان كل مايشغل ذهني في ذلك الوقت هو قدمي فلم أشأ دخول الجامعة بهذه الإعاقة علاوة علي أنني بدأت أشعر بالتعب وزادت عليّ الآلام.
كالعادة كانت أمي هي رفيقتي في هذه الرحلة.
شددنا الرحال لشارع باب اللوق الذي كان يضم صفوة من الأطباء في كل التخصصات وخاصة تخصص العظام.
كنت أخطط لإجراء العمليتين في الإجازة قبل دخولي الجامعةحتي أطأ أرض الجامعة بقدمين ثابتتين كنت أظن أن الأمر سهلا.
اتسع الخرق علي الراتق فالعمليتين أصبحوا ثلاث عمليات والعملية الواحدة تستغرق عدة أشهر في الجبس ثم شهرين إلي أربعة أشهر في العلاج الطبيعي.
كان يوما عاصفا غير مسار حياتي فبعد هذا التشخيص لابد أن أؤجل فكرة العمليات لما بعد الجامعة أو أن أجري في كل إجازة عملية لكن هذا الأمر ليس مضمونا وليس عمليا فقررت تأجيل العمليات لما بعد الجامعة.
عدت حزينا مهموما لدرجة أنني نسيت نتيجة الثانوية.
ولما عدت للبيت وجدت بعض الأصدقاء بانتظاري يهنئونني بنجاحي وأن رقم جلوسي أعلنت عنه الإذاعة ومعي ثلاثة آخرون وأنني رفعت اسم المعهد عاليا فمعظم معاهد القليوبية( لم ينجح أحد.)
منذ تلك اللحظة ارتبطت بالإذاعة المصرية التي نقلتني من عالم إلي عالم آخر أكاد أجزم أن الجزء الأكبر من ثقافتي وتشكيل وجداني وتوسيع مداركي وعقلي يعود الفضل فيه بعد الله سبحانه وتعالي وبعد بيئتي التي تربيت فيها للإذاعة المصرية كانت متعتي التي لايضاهيها متعة وأنا أتنقل بالمؤشر بين محطات إذاعة القرآن الكريم، صوت العرب، إذاعة الشرق الأوسط، الشباب والرياضة، إذاعة الأغاني وألحان زمن الفن الجميل.
تعرفت علي عبدالوهاب وحليم وثومة وفيروز وفريد ومحمد فوزي ونجاة وفايزة أحمد ووردة الجزائرية وكل عمالقة زمن الفن الجميل من الإذاعة.
كنت أنتظر بشغف برنامج كتاب عربي علم العالم الذي كان يقدمه العملاق القدير آمين بسيوني بصوته الحنون الدافئ وبرنامج زيارة إلي مكتبة فلان لنادية صالح وألف ليلة وليلة تأليف بابا شارو أو القدير الراحل محمد محمود شعبان هذه الليالي الإذاعية التي نمت عندي بل كل أبناء جيلي الخيال الخصب وبرنامج غواص في بحر النغم لعمار الشريعي الذي ارتبطت به ارتباطا شرطيا حتي أصبح بالنسبة لي نموذج نجاح يُحتذي به والبرنامج العملاق (تسجيلات من زمن فات) كانت سعادتي غامرة بهذا البرنامج تحديدا أسمع فيه تسجيلات عمالقة الفن الجميل بأصواتهم وهم يروون ذكرياتهم ومشوار حياتهم.
أما برنامج علي الناصية لأمال فهمي فهذا هو الرقي بعينه.
أما إذاعة القرآن الكريم فصارت عشقي الأول فعندما أستيقظ أضبط المؤشر عليها وأبحث بشغف عن الأصوات التي تعشقها الملائكة الشيخ محمد رفعت إمام المقرئين وأستاذ الأساتذة هذا الصوت الذي أعتبره همزة وصل بين السماء والأرض بين السحاب والجبال بين زخات المطر ومياه الأنهار هو الصوت العذب الذي لم تخالطه ملوحة ولاشائبة حنجرة ذهبية ومجموعة أصوات في صوت واحد صوت يجمع بين القوة والفخامة والعذوبة والأصالة والرصانة يجبرك علي استماعه ويحدث في النفس حالة إيمانية فريدة هو الصوت الذي لاأعرف ليومي طعما ولابداية عطرة إلا به فأشحن بطاريات يومي بشحنة قرآنية إيمانية عطرة لانظير لها ولا أميز شهر رمضان ولاأفطر إلا علي أذانه والشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ الحصري والطبلاوي والدكتور نعينع وغيرهم من عمالقة التلاوة الذين أسسوا لمدرسة التلاوة المصرية ووضعوها في المصاف لتتحقق المقولة الشهيرة (نزل القرآن الكريم بمكة وطبع بإسطنبول وقُرأ بمصر) أما النقشبندي وتواشيحه والشيخ طوبار فذاك قصة أخري.
حفظت أركان الإذاعة دون أن أراها فقد تخيلتها ولم أفسر حالة الارتباط الشرطي بيني وبين الميكروفون إلا عندما دخلت الإذاعة وسجلت برنامجا في إذاعة الشباب والرياضة مع الإذاعية القديرة مني المنياوي التي أصبحت رئيسا لإذاعة الشباب والرياضة فيما بعد كضيفٍ علي أحد برامجها متحدثا عن حالة مصر السياسية قبيل الانتخابات الرئاسية قبل الفائتة، وبعدها توالت اللقاءات والبرامج والزيارات للإذاعة المصرية، الأغرب أن الإذاعة التي شاهدتها لم تبعد عن الإذاعة التي تخيلتها.
عرفت بعد ذلك من عميد المعهد الأستاذ مختار خليفة أنني الأول علي المعهد وأنني من أوائل القليوبية لم أفرح بذلك فقد كان الجميع ينتظرون مني أن أكون أول الجمهورية أو علي الأقل من العشرة الأوائل علي الجمهورية.
كان هذا الرجل معلما وملهما وإنسانا من طراز رفيع كان يخاف علي طلبة المعهد لدرجة أن المدرس الذي يتغيب عن حصتة يدخل مكانه ويشرح لنا مااستصعب علينا بطريقة رشيقة بسيطة سهلة تدل على علمه وتمكنه في المواد الشرعية أما الأستاذ ماهر بدر فكان قصة أخري كنا نخشاه ونهابه وفي نفس الوقت نحبه ونحترمه كان يجمع بين النقيضين الشدة والحزم مع التراخي واللين والهدوء وتشجيع المتميزين أمثالي جزاهما الله وجزي عني كل أساتذتي وكل من علمني حرفاً خير الجزاء.
كنت أحلم بدخول كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولكن للأسف ليس في جامعة الأزهر هذا التخصص لاأدري إلي الآن لماذا؟
علي الرغم من أن خريجي جامعة الأزهر مصريون أو وافدون سفراء لمصر فوق العادة فلمً يحرم طلابه المصريون من هذا الشرف ومن تمثيل بلادهم في السفارات والقنصليات بدول العالم؟
لماذا يحرم علي طلبة جامعة الأزهر دخول السلك الدبلوماسي؟
بعدما تبخر حلم الاقتصاد والعلوم السياسية تساوت عندي كل الكليات فسألت ما أقرب الكليات إلي الاقتصاد والعلوم السياسية؟
فقالوا لي التاريخ والحضارة.
وعند التنسيق وتقديم الرغبات وجدت أن التاريخ والحضارة قسم تابع من ثلاثة أقسام تابعة لكلية اللغة العربية القسم الأول الشعبة العامة وتهتم بدراسة علوم النحو والصرف والأدب والبلاغة.
القسم الثاني الصحافة والإعلام.
القسم الثالث قسم التاريخ والحضارة.
كان أبي يريدني أن التحق بكلية اللغة العربية الشعبة العامة التي تخرج فيها حتي أكمل مشواره وأنا غير مستسيغ لهذا الأمر فقررت إجراء تعديل تكتيكي ولكن مغلف برضا أبي فالتحقت بكلية اللغة العربية ولكن بقسم التاريخ والحضارة حتي أجمع بين الحسنيين رغبته ورغبتي.
كانت كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالدراسة بالقاهرة في قلب القاهرة الإسلامية تتوسط العمارة الفاطمية والمملوكية ملاصقة للجامع الأزهر وتطل علي الحسين وتشرف علي الغورية والحمزاوي وقهوة الفيشاوي وشارع المعز ومسجد السلطان حسن والقلعة والموسكي وباب زويلة تحتل موقعا فريدا في قلب التاريخ الإسلامي فدرست التاريخ بين أحضان التاريخ بالقرب من نفس مكان مسقط رأس أمي الذي ترعرعت فيه فقبل دخولنا المرحلة الابتدائية وفي كل إجازة مدرسية كنا نقضيها مع جدي وجدتي لأمي وأخوالي في بيت السيوفي الأثري 19 درب حلوات حي الخليفة القلعة.
من روايتي أنا والمماليك.
وللحديث بقية.